واحد يقصف والثاني يغرّد – بقلم إنعام كجه جي

إنعام-كجه-جي

عشنا ورأينا سفير بريطانيا في بغداد، ستيفن هيكي، يقف في مطبخ بيته لكي يحضّر أكلة الدولمة العراقية الشهيرة. كان سعيداً بموهبته كطاهٍ ونشر الفيلم على الملأ. وتبادل العراقيون والعراقيات التسجيل وهم ما بين مُعجب وساخر. بعد ذلك، دبّت الحماسة في نفس سفير كندا، أولريك شانون، فقرر أن يخوض التحدي، وشمّر عن ساعديه لكي يعمل الكليجة، وهي من المعجنات المحلية التي يستقبل بها العراقيون العيد، مثل الكعك في مصر. إن السفير ضليع بالعربية، مثل زميله البريطاني، وقد نشر تغريدة نراه فيها يهرس التمر ويفرد العجين بمنتهى السعادة. لا عيد من دون دولمة وكليجة وكعك، ولا سفارة من دون علم وطني يرفرف فوق مبناها وحفلات دبلوماسية وبروتوكولات وقنصليات وتأشيرات وحراسات عند البوابات؛ سبحان الذي جعل روائح أطباقنا الشعبية تفوح من شبابيك السفارات.
دأب القادة والسلاطين، في الأزمنة الخوالي، على اعتماد مندوبين يرسلونهم للتفاوض مع الممالك الصديقة، وحتى العدوّة. ثم تطور ذلك التقليد، ولم يعد المندوب يقضي حياته ذاهباً عائداً مثل المكوك، حاملاً الرسائل المخطوطة المختومة الملفوفة في أسطوانات مذهّبة؛ صار يقيم في البلد الآخر، ويحمل لقب «السفير». اتفقوا على اعتبار مباني السفارات أرضاً تابعة للدولة التي يرتفع علمها عليها؛ بقعة مستقلة عن سلطة الدولة المضيفة، لها حصانتها. وشاهد العالم، عبر التاريخ، أشخاصاً يلجأون إلى سفارات تحميهم، وتمنحهم الأمان. ولعل أشهرهم جوليان أسانج، الناشط الأسترالي صاحب موقع «ويكيليكس». كان في لندن عندما لاحقته الولايات المتحدة بتهمة سرقة وثائق عسكرية، ثم لجأ إلى سفارة الإكوادور التي منحته الأمان، وبقي فيها سبع سنوات، كاد يتحول فيها إلى كرسي من أثاث السفارة.
هناك من يحلم بمنصب السفير. يرى أنه أرقى المناصب وأكثرها أناقة. إنه رسول دولته في العالم. يرتدي أفخر الثياب، ويسكن أجمل المنازل، ويرتاد أشهر المطاعم، ويجلس في المقعد الخلفي لسيارة حديثة يرفرف عليها علم صغير. اسمه مسبوق بلقب «سعادة». يسافر ويقابل الملوك والرؤساء، ويتنقل من حفل إلى حفل. هل هذه هي كل مهمات سعادته؟
تختار الدول سفراءها، عادة، ممن يجيدون لغة البلد المُضيف، أو من المتزوجين من نساء ذلك البلد. ومن يطالع كتب الجاسوسية ومذكرات السفراء المتقاعدين يتأكد من أن السفير هو عين بلده في الخارج، عين مفتوحة على اتساعها، تلاحظ وتحلل وتستخلص. وهو أذن كبيرة تسمع وتلتقط وتسجل وترسل المعلومات. ولكي يكون صاحب المهمة جديراً بها، لا بد له من أن يعتمد على شبكة من الصداقات والعلاقات مع صفوة القوم، ومع صغارهم أيضاً. وكان أحدهم يتباهى بأن أكبر مصدر لأخباره هو البستاني الذي يعتني بحديقة السفارة. يخرج سعادة السفير ليتريّض بين صفوف الورد، ويسأل الجنايني عن أحواله، وعن هموم الناس، وما يدور في المقهى من حكايات: «شكو ماكو»؟
يحدث أن تتلبد العلاقات بين البلدين، فتنقلب أشهر العسل إلى خل. يتلقى السفير أو طاقم السفارة مهلة لا تتجاوز نهاراً وليلة لكي يغادر فردوسه، ويعود إلى بلده. ولم يعد يكفي، اليوم، أن تتكلم لغة البلد الذي تشتغل فيه لكي تكون سفيراً ناجحاً؛ عليك أن ترافق الطاهي مثلما ترافق البستانيّ، وأن تتعلم طبخ البرياني والكبسة والمندي والكسكسي والكباب الشامي، وفرم خضراوات التبولة. يتفرج العراقيون على تغريدات السفيرين، ولا ينسون أن طائرات بلديهما قصفتهم ودمّرت كل ما بنوه خلال قرن من الزمان.

جريدة الشرق الاوسط