هل “الثورة الثقافية” من شعارات الماضي البائد؟ – بقلم أمين الزاوي

امين الزاوي

ما نحتاج إليه في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحرر عنق الفرد من حبل القطيع الذي يكبله ويجرجره إلى المسلخ من دون وعي منه

هل أصبح شعار “الثورة الثقافية” من مخلفات الماضي؟ شعار لطالما رفعه كثير من الأنظمة السياسية في سبعينيات القرن الماضي.

هل انتهت صلاحية الاستعمال السياسي والاجتماعي لهذا الشعار سياسياً وثقافياً؟

أصبح الواحد منا يخجل من استعمال هذا الشعار الذي هو أقوى ما يمكن أن ترفعه قوى العقل والتقدم والحرية.

كانت “الثورة الثقافية” من إبداعات ماو تسي تونغ الصين، ثم تم تصديرها إلى العالم الثالث ومنها بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في طبعات مختلفة ولكن بروح واحدة وبغرض واحد أيضاً.

حينما كنا طلبة في الجزائر، كان من يتفوه بشعار “الثورة الثقافية” يصنف مباشرة إما مع النظام السياسي الذي كان يقوده الرئيس هواري بومدين بيد من حديد وأقام سياسته على ثلاث ثورات هي “الثورة الزراعية والثورة الصناعية والثورة الثقافية” أو يصنف ضمن الخط الماركسي الماوي المتطرف.

كانت الاشتراكية الماوية الشقيق- العدو للاشتراكية السوفياتية.

صحيح “الثورة الثقافية” التي كان يبحث عنها ماو تسي تونغ أو جمال عبدالناصر أو هواري بومدين أو حافظ الأسد أو حسن البكر أو صدام حسين أو جعفر النميري أو معمر القذافي هي تلك الثورة التي تكون فيها الثقافة بوقاً للسياسة المتبعة للحزب الوحيد والحاكم الأوحد.

جميع الأنظمة التي كانت ترفع شعار “الثورة الثقافية” كانت أنظمة تفكر من داخل الثكنة في الثقافة وفي الاشتراكية.

صحيح أيضاً وهذا للتاريخ أن هذه الأنظمة التي ظلت تطبخ سياستها داخل الثكنة وعلى ظهر دبابة أو من خلف متراس أسهمت في بناء الدولة الوطنية المستقلة عن الهيمنة الاستعمارية التقليدية إلا أن هذا البناء ظل كسيحاً يعيش بأزمة مزمنة بنيوية، لأنه ومنذ مطلع الاستقلالات الوطنية لم يكن مؤسساً على الديمقراطية والتعددية وفصل الدين عن الدولة وفصل النظام عن مؤسسات الدولة، كان النظام والدولة مزرعة واحدة.

وهذا الفهم الديماغوجي والبروباغندي للثقافة وللثورة الثقافية وللمثقف هو الذي جعل “الثقافة” حتى اليوم، في البلدان العربية والمغاربية، مركوباً سياسياً “مشروعاً” و”شرعياً” للأنظمة القائمة، كل نظام يحل يجعل منها بوقاً خاصاً لتصفية حساباته السياسية والأيديولوجية مع النظام السابق وليوهم الناس بأنه مختلف عن سالفه.

اليوم وبعد موت شعار “الثورة الثقافية” مع مجيء أنظمة سياسية هجينة ومهجنة متعاقبة، حدث ذلك مع صعود تيار الإسلام السياسي وتغول “الإخوان المسلمين”، رهنت هذه الأنظمة مصيرها داخلياً لقوى الإسلام السياسي والخوف منه ومغازلته حتى وهي تدعي أنها ضده وخارجياً لقوى المال الدولي المتوحش.

أتأمل اليوم هذا الخراب الثقافي القائم في الفرد وفي الجماعة وفي الحزب وفي مفاصل المؤسسات الثقافية أو التي يفترض أنها تؤدي مهمات الثقافة وتجمع المثقفين على اختلاف مشاربهم، فأقول، ألسنا بحاجة ماسة إلى “ثورة ثقافية” في مجتمعاتنا؟ “ثورة ثقافية” أول ما تقوم به هو الثورة على مفهوم “الثورات الثقافية” صنيعة الأنظمة السياسية المتعاقبة التي فرغت الثقافة والمثقفين من حس المقاومة ومن العبقرية ومن الإبداع ومن الحرية؟

نعم نحن بحاجة ماسة اليوم إلى استرجاع هذا الشعار “الثورة الثقافية” ونفخ الروح فيه، روح العصر بكل تعقيداته، والاستثمار فيه لكن بمنطلقات أخرى، وبفلسفة أخرى مغايرة جذرياً.

فـ”الثورة الثقافية” التي نحتاج إليها اليوم في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي تلك الثورة التي تحرر الفرد من الكسل، تحرر عنقه من حبل القطيع الذي يكبله ويجرجره إلى المسلخ من دون وعي منه، “ثورة ثقافية” تحرر في الإنسان العربي والمغاربي ذكاءه المطموس وتستنهض فيه عقله المسيّج بالدوغما والخرافة.

نعم من حق هذا الجيل العمل على التأسيس لثورته الثقافية الجديدة التي تجيب عن هواجسه وأسئلته المعقدة في ظل عالم متغير بسرعة خارقة.

“الثورة الثقافية” الجديدة التي يجب الدفاع عنها والترويج لها هي تلك التي تهدف إلى إعطاء المؤسسات الثقافية الحرية في الإبداع والتفكير وإعمال العقل والاجتهاد.

“الثورة الثقافية” الجديدة ليست “حرفة” يشتغل فيها السياسي بل هي فلسفة، ليست أيديولوجيا تمشي في روحنا بل هي طريق نمشي فوقه لنصل إلى السعادة، السعادة النسبية طبعاً.

“الثورة الثقافية” الجديدة ليست من أجل الثورة ولكنها من أجل الثقافة.

“الثورة الثقافية” الجديدة ليست “مهنة” يمتهنها السياسي أو المثقف.

“الثورة الثقافية” الجديدة ليست هي الحياة بل هي الطريق إلى الحياة المتدفقة.

إن “الثورة الثقافية” الجديدة تدافع عن خضرة الحياة لا عن بؤس نظريات اليابسة.

لن تتعافى السياسة العربية والمغاربية إلا إذا تعافت الثقافة فيها، ولن تتعافى الثقافة إلا إذا دخلت في مشروع “الثورة الثقافية” الشاملة بمنظرها المعاصر الذي يحفظ الخصوصيات ويدخل في الإنساني العالمي في الوقت نفسه.

لن تقوم السياسة من مستنقع الديماغوجيا ولن يستفيق السياسي من وهمه إلا إذا تصالح عالم السياسة ببراغماتيته مع عالم الثقافة بجنونه وحرياته.

لا سياسة بمفهومها النبيل النفعي من دون ثقافة بمفهومها الإبداعي الحر والمتحرر، الفردي والجماعي.

لن تتحقق أية تنمية مستدامة في مجتمعاتنا العربية والمغاربية، ما دامت الثقافة فيها من دون تنمية مستدامة قائمة على احترام الحرية في الإبداع والتعددية الفكرية.

لن تكون هناك أية تنمية سياسية إذا لم تكن هناك تعددية ثقافية وانفتاح لغوي واحترام لمكونات المجتمع بكل إثنياته وعقائده ولغاته.

السياسي الذي لا يحب الثقافة والفنون ولا يدخل فيهما، ليست أية ثقافة، إنما الثقافة المقصودة هنا هي القائمة على الإبداع والحرية والاجتهاد والعقل وهي التي يمكنها أن تنقذ السياسة والسياسي من الانغلاق والفساد والوهم والطغيان ومرض عبادة الفرد.

الثقافة المتعددة المبدعة والعقلانية هي من ينمي فكرة حق المواطن في الحرية الفردية، حق المواطن في امتلاك نفسه وجسده، رجلاً كان أو امرأة، ضد “سياسة القطيع” التي تخدم الأنظمة الشمولية المدنية أو العسكرية والأنظمة الثيوقراطية الدينية.

لقد استطاعت الأنظمة السياسية المتعاقبة في العالم العربي وشمال أفريقيا المبدعة بامتياز في تبرير الهزائم وتقنين الفساد، أنظمة معظمها وصلت إلى قمة هرم السلطة بشعارات “الثورة”، استطاعت أن تمسخ مفهوم الثورة وتشوهه في مخيال المواطن اليوم، حتى أضحت كلمة “الثورة” مثيرة للضحك وهي من قاموس الماضي.

الأنظمة السياسية التي تؤمن بالتداول وبالتعددية وبالمنافسة الشريفة هي الأنظمة التي لا تخاف من “الثورة الثقافية” ولا تخشى الحرية الفردية والتعددية في الفكر والرأي والعقيدة.

يولد المواطن السليم الحر من رحم الثقافة والإبداع لا من رحم الأنظمة السياسية.

يعيش الدين الحق كممارسة أيضاً حين تعم المجتمع الثقافة الحرة الداعية إلى احترام العقائد كلها واللاعقائد كلها.

تولد الأخلاق السياسية السامية والنزيهة من قلب الثقافة التنويرية.

تولد المواطنة كمشترك سلوكي بين المواطنين والمواطنات في مجتمع ما من رحم الثقافة لا من الأيديولوجيا ولا من السياسة الموسمية.

يوم تصبح الثقافة الحرة خبز المواطن اليومي لا يمكنه القفز عليها، تكون الصحة بصحة جيدة لأن صحة الفرد وصحة مؤسسات الصحة لن تكون بصحة جيدة إلا إذا كانت في مجتمع يعيش الثقافة الحقيقية المحررة كسلوك فردي وجماعي ومجتمعي.

حين يحب المجتمع الموسيقى ويعشق المسرح ويقرأ الكتاب الإبداعي بشهية ويُعْمِل العقل في حل المعضلات التي تعترضه، ويؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة، ويحترم ويتعايش مع الآخر المختلف عنه ديناً ولغة وقومية ولوناً، ويقف في طابور طويل للحصول على تذكرة دخول لمشاهدة فيلم سينمائي ويحجز مقعده الموسمي الثابت في المسرح، حين يكون كل هذا نقول مرت من على هذا المجتمع أو فيه “الثورة الثقافية”.

إن “الثورة الثقافية” الجديدة يجب أن تزاوج ما بين الاشتغال الفردي الإبداعي الإنساني والتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي المدهش، حتى لا تتحول التكنولوجيا إلى استهلاك قاتل ومخدر جديد ولا تتحول الثقافة إلى لهو استهلاكي على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى برامج المنصات الأخرى.

أتساءل في الأخير، أليس هذا الذي يحدث اليوم في السعودية هو بداية “ثورة ثقافية”، تعمل شيئاً فشيئاً على إعادة السينما والمسرح والكتاب والفلسفة إلى المواطن بالتوازي مع تحرير العقل النقدي وتحرير المرأة من قبضة الفكر المتشدد الذي سجن المجتمع في مربع الانغلاق والتطرف عقوداً، ومن دون هذه الثورة الثقافية لا يمكن التأسيس لمجتمع جديد مستقبلي بمؤسسات منافسة في السوق العالمية، سوق المال والأعمال والسياحة والثقافة؟

هل “الثورة الثقافية” من شعارات الماضي البائد؟ – بقلم أمين الزاوي

www.independentarabia.com