كثيرا ما يتندر؛ في مجالس عديدة؛ بقصة الرجل الأوروبي الذي زار أحد أحياء العرب، وعرضت عليه القهوة، وظل المضيف يصب القهوة لمضيفه بلا توقف، حتى كاد هذا الرجل أن “يفرّغ” من شرب القهوة، وهو لا يدري كيف يقول للمضيف إنني اكتفيت، وساكب القهوة لم ير من مضيفه “هز الفنجان” حتى يعرف منه أنه اكتفى من شرب القهوة، وعندما أخبر الضيف بضرورة هز الفنجان لاكتفائه من القهوة، ظل يهز يديه حتى عند تقديم الأطعمة الأخرى (نوع من الطرافة) ولذلك فللقهوة دلالات، وممارسات، وطقوس غرائبية عجيبة يعرفها كبار السن، وهي اليوم تتوارى، وتضمحل، حتى تختفي من ذاكرة الأجيال، وستبقى بين دفتي الكتب فقط، كأحد الرموز التقليدية التي عمرت فترة من الزمن، ثم اختفت كحال الكثير من القيم المجتمعية، التي تعيش زمان أجيالها فقط، ولا أكثر من ذلك، حيث إنه في كل زمن هناك خيارات متاحة، أو ممارسات تستحدثها الأجيال بما يتوافق مع حياتها العصرية، ففي ظل الشركات المتعددة الجنسية بأدواتها الـ “ماكرة” التي تتصادم كليا مع كل موروث، يبقى من المتوقع أن تختفي الكثير من الممارسات التقليدية للوجبات، ومن ضمنها مشروب القهوة، بكل تفاعلاته وإرهاصاته، وإن كنا جيلا؛ حظي بشيء ما من تلك الذاكرة المجتمعية التي سجلت هذه الممارسات، فذلك كان لزمان هو مستحق له، فالبدائل كانت شحيحة، وحال الناس البسيطة تشجع على بقاء بعض الممارسات المعبرة عن تقليديتها، وكل جيل يحاسب بأدوات عصره.
وعندما يأتي العنوان: “ليست مجرد قهوة” فإن المعنى يذهب إلى تأصيل الممارسة ذاتها سواء لشرب القهوة كمادة غذائية، أو تقديمها كنوع من كرم الضيافة، وما يصاحب ذلك كله من مواقف وممارسات، كلها لها دلالاتها الخاصة والمؤثرة، وتنبني عليها أحكام لا يمكن تجاوزها، ومن خلال ذلك كله تبقى القهوة فقط هي القادرة بحكم هذه الصور، أن تصدر أحكاما، وتلغي
قناعات، وتعبر عن مواقف، وقد تنشئ مصادمات بين طرفين، وقد تذلل صعاب التأزم لأمر ما، ما يكون له ذلك القبول لولا التقيد بجانب من قوانين القهوة، وتنظيماتها المختلفة.
فعندما تأتي مجموعة من الرجال من بلد ما، أو قبيلة ما، وتضع فناجين القهوة على الأرض قبل شرب قهوتها، فإن في ذلك دلالة على أن لديهم طلبا ما، يودون تحقيقه، وإلا لن تشرب قهوة المضيف، وعندما تصب القهوة في الفناجين لأكثر من منتصف الفنجان فإن في ذلك دلالة على أن المضيف مستكثر وجوده في المجلس، وعندما تصب القهوة على مستوى ما دون ثلث الفنجان، فإن في ذلك دلالة على احترامه وتقديره، وعندما يزيد الضيف عن فنجانه الثالث، فإن في ذلك “سماجة” وسوء خلق، وعندما يضع فنجان قهوة على الأرض دون أن يناول الذي يصب القهوة، فإن في ذلك استخفاف بالمضيف، وعندما يقدم المضيف إلى شرب القهوة أولا أمام الضيف، فإن في ذلك اطمئنانا للضيف بأن القهوة المقدمة إليه خالية من أي خطورة على صحة الضيف، وعندما تقدم القهوة وبها أصناف متعددة من أنواع الطعام، فإن في ذلك تبجيلا واحتراما، ومنزلة كبيرة للضيف، خاصة إذا كان المضيف من أبناء المجتمع الميسورين، والحالة تراعى بناء على القدرة المادية، فالإقلال في ذلك من الميسور، تعد إهانة للضيف، وغير مرغوب في زيارته، وحتى المكان الذي يستضاف فيه الضيف يقيّم على هذه الشاكلة، فكل هذه الممارسات والصورة تدخل في حسابات دقيقة، لدى الطرفين، ولن تأتي هكذا بوحي الصدفة.
وبالتالي فعلى المستضيف أن يكون حذرا وحاذقا إذا استضاف شخصا ما، خاصة إذا كان هذا الضيف من كبار السن، أما في حالة الأعمار الصغيرة “جيل اليوم” فأتصور أن المسألة خارج عن كل هذه الحسابات.
جريدة عُمان