سيكون محالاً على أي باحث جاد في التاريخ الثقافي الحديث في عالمنا العربي أن يتناول هذا التاريخ، أو أي مرحلة من مراحله، دون أن يعود إلى المجلات الثقافية، خاصة في حواضرها التي عرفت ازدهاراً أكبر في مطالع القرن العشرين وعقوده الأولى، لا لكي يتعرف على ما حوته من تغطية ومتابعة للحراك الثقافي، وإنما أيضاً على السجالات والتجاذبات التي طبعت تلك المرحلة، والتي كانت بمثابة المخاض الذي منه ولدت الثقافة الجديدة، بأفقها العصري.
سنجد أنفسنا، ونحن نعقد مقارنة بين الأمس واليوم، أمام ثنائية الندرة والوفرة، ففي الأمس، مع بدايات ما عرف بعصر النهضة العربية، الموءودة على كل حال، كان عدد هذه الدوريات محدوداً للغاية، ربما لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وإن زاد فبعدد أصابع اليدين، فيما يقدّر عدد هذه المجلات بالمئات عندما نتحدث عن الخريطة الثقافية والأدبية العربية في مشرقها ومغربها، ومن محيطها إلى خليجها.
والوفرة بطبيعة الحال خير من الندرة حين يدور الحديث عن الكتب والمجلات، دون أن يعني ذلك، أن الدور الذي اضطلع به العدد المحدود جداً من المجلات الثقافية العربية في الماضي، أقلّ أهمية وأضيق تأثيراً من ذاك الذي يضطلع به العدد الكبير من المجلات والدوريات التي تصدر اليوم.
أذكر هنا ما أشار إليه أحد كبار الأدباء العرب حين أُرسل له، مع أدباء عرب آخرين كبار مثله، العدد الأول من إحدى الدوريات، وطلب منه أن يبدي انطباعه أو ملاحظاته عليه، فأثنى على الجهد المبذول في الإعداد وما حواه من مواد، لكنه تمنى أن تنحو المجلة في أعدادها القادمة نحو تخصيص ملفات، تتناول فيها قضايا ثقافية وفكرية راهنة، أو على صلة بالراهن العربي، بحيث يتم استكتاب كتّاب بعينهم من أهل الاختصاص، وحسب كل ملف، فذلك ما يجعل هذه المجلة مميزة، ويمكنها من أن تقدم إضافة يعتد بها في المشهد الثقافي، لا أن تتحول إلى واحدة من المجلات التي لا يعدو محتواها أكثر من كونه تجميعاً لما يصلها بالبريد من مقالات أو نصوص، وهو الطابع الغالب على الكثير من الدوريات العربية اليوم.
هناك من يقول إن المجلات الثقافية فقدت الأهمية التي كانت لها في الماضي، فلم تعد تنال المتابعة. ربما يكون السبب هو كثرة هذه المجلات، وربما يكون في تراجع الاهتمام بحوامل الثقافة عامة أمام سطوة الوسائل الجديدة.
ندرة المجلات ووفرتها – بقلم د. حسن مدن
جريدة الخليج