بداية أقول، إن جائزة الشيخ زايد للكتاب لها وقع مختلف لي كإماراتية، إذ تحمل اسم شخصية عربية أصيلة أسست لقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، شخصية تاريخية خالدة ندين لها ولباقي الآباء المؤسسين، ولصاحب السمو رئيس الدولة «حفظه الله»، ولأعضاء المجلس الأعلى حكام الإمارات، بالفضل لوجودنا بهذه القوة على خريطة الواقع العالمي، ومساندة المجتمع الإنساني، حيث تظل دولتنا سباقة في مساندة المجتمعات لتجاوز أزماتها ومواجهة الكوارث الطبيعية والإنسانية، مؤمنة بأن ذلك واجب عليها، مستنة فكرة المراعاة والفزعة (وتعني نصرة الضعيف ومساندته)، والاهتمام بأن تكون الإمارات بلد الإنسانية بمعناها الوسيع، تقوم بدورها على أكمل وجه، حاسمة وقادرة دون دويّ، على ألا تكون هناك مسافة بين النوايا والأفعال، بين القول والعمل، فدامت الإمارات على نهج الوالد المؤسس نموذجاً للسماحة والتسامح، ودامت عالية السيرة العطرة لاسم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، «طيب الله ثراه».
إنني اليوم أشعر بالامتنان والفخر، وأشرف بهذه الجائزة التي هي وسام على صدري كأول كاتبة إماراتية تنالها في فرع الآداب منذ نشأة هذه الجائزة، وإن حاز ذلك الشرف ثمانية إماراتيين آخرين في الفروع الأخرى في شخصية العام، والنشر والتقنيات الثقافية، والتنمية وبناء الدولة، وفي أدب الطفل والناشئة، وأنضم إليهم الآن بفخر وفرح واعتزاز، إنها وسام لا يشبه غيره، كما أنني أشعر بسعادة وامتنان كبيرين أمام كل هذا الاحتفاء الذي أحاطني به كثيرون في الإمارات ومصر، ومن كل وطننا العربي الكبير، لقد غمرتني كلمات التهاني الصادقة من كل صوب، وهو ما يضعني أمام مسؤولية عظيمة، آملة أن أكون دوماً عند حسن ظن كل من يحسنون الظن بالكلمة ودورها، بالإبداع وضرورته.
اليوم وأنا الفائزة بالجائزة الأجمل والأرقى والأبهى، أزهو كإماراتية بانتمائي لوطن يقدر الإبداع والمبدعين، وطن جعل الثقافة والقراءة والفنون أسلوب حياة، وعظّم من أدوار المثقفين في مسيرة العطاء والتنمية والتنوير، وهو نهج إماراتي أصيل وراسخ يتواصل بقيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة «حفظه الله»، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله»، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وإخوانهم أعضاء المجلس الأعلى حكام الإمارات، كما يتواصل حضور وإنجازات الشارقة بمشروعها الثقافي الفريد عربياً وعالمياً برؤية ودعم أصيل من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وأحسب أن ما تقوم به الدول حين تكرم الكتاب والكتب هو وضعنا ككتاب ومثقفين ومبدعين في مقدمة التنمية والتحضر والولوج إلى الآخر كثروة حقيقية من ثروات المجتمع عن طريق إصدار الكتب، وإقامة المعارض لها، وتقديم الجوائز للمبدعين والناشرين.
كما لا يفوتني هنا التأكيد بوفاء وامتنان كبيرين على أن حصولي على جائزة الشيخ زايد للكتاب، كأول كاتبة إماراتية تفوز بها في فرع الآداب، إنما هو في حقيقته إنجاز يضاف إلى إنجازات المرأة الإماراتية في كل مجالات العمل والإبداع؛ بفضل مسيرة تاريخية متواصلة من دعم ومساندة وتوجيه «أم الإمارات» سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك رئيسة الاتحاد النسائي العام رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة الرئيس الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية.
أرشيف الحياة الواقعية
أحسب أن ما يقوم به الكتاب في كتابة الروايات والأدب والفن والشعر والنقد هو النظر لحياتنا من أبواب الإبداع وصقل التاريخ كسن قلم، وتثبيت احترافية الحكي والنزول إلى الواقع، وكشف المخفي في الحروب والمنازعات والأخطاء والتركيز عليها وعلى مشاعر إنسانية أخرى، مثل الفرح والحب والنشأة والعنف والعلاقات والفن والألم واللعب الفني. أي التغلغل بين شرايين التخيل والأسطورة، والارتواء من الحكمة والثقافة، وترك العنان للخيال والتخييل، وإعمال العقل في الفكر والتفكر، والتخلص من شوائب الكراهية والتمييز والتعصب والجهل، ووضع الواقعي في إطاره الفني.
الروايات هي أرشيف الحياة الواقعية ممزوجاً بالحلم والشغف، كإضافة أخرى للقدرة على الحياة وأثرها الأهم في كونها وثيقة إبداعية بين الواقع والخيال، ننشئ منها مكانة أخرى في واقع الكلمة التي انتخب منها أقل القليل منذ ترجمة ألف ليلة وليلة (كأسطورتنا في الحكي اللاواقعي) إلى نجيب محفوظ (كأسطورتنا في الحكي المرتبط بالواقع الحي)، ليقدم عنا خارجياً وننشئ مكانتنا الأدبية (التي غبنا عنها بقصد أو دون قصد) بجانب أمكنة أخرى.
اقتفاء أثر الشعر
كان كتابي «مقهى ريش.. عين على مصر» الصادر عن دار نهضة مصر، والفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب لعام 2022، رحلة بحث عن هذا الحضور الطاغي في تكوين المدينة وسيرتها وشخصيتها أيضاً عبر نقطة صغيرة فيها من خلال المقهى، عن ثقافة المقهى، لا كمكان للجلوس فقط، لكن كحاوية مكان وتاريخ وزمن وأحداث وعلاقات.
يمكننا البدء من نقطة في المكان والزمان لكننا لا ننتهي منها إلا لهذا الاحتشاد العميق والكبير في السيرة أو في السير المتوالية والمتراكمة خلف بعضها بعضاً، كما وردة تتفتح وريقاتها بين أيدينا. كمطر يهطل بغزارة، هو ليس حكاية مقهى أي مقهى، ولا مدينة أي مدينة. هو تاريخ المفقود، والمخفي، والمردوم، في الذاكرة. بين واقع في التاريخ، وواقع بين السيرة والرواية، بين الحكائي والفني، وبين الجزيئات حين تكتمل في لوحة فسيفسائية بتفاصيلها كلها.
كنت ألقي الضوء على بعض ما لم يُلتفت إليه من سرود بسيطة أو نتائج مذهلة، كأن يمنع ذكر اسم سعد زغلول، فيغنى الشعب أغنية «يا بلح زغلول» مثلاً، وترسل الرسائل من جميع البقاع ليوضع اسمه على أظرفها، إمعاناً في التذكر والمواجهة والتمويه واللعب والإصرار، كفكرة بسيطة يقف فيها الأعزل محارباً فكرة النسيان أو الامحاء أو الصمت. (إنها لحظة أكثر سحرية من روايات الدهشة)، أو يرتبط الكتاب فيها بما يهم كاتبه، إذ وجدتني أقتفي أثر الشعر في لحظات التحول والإنشاء. فيكتب فؤاد حداد قصيدة في محبة كوبري إمبابة، أو يكتب أمل دنقل قصيدة عن منصة تمثال ميدان التحرير، التي لم يوضع عليها أبداً أي تمثال ليسميها الكعكة الحجرية، أو يكتب أحمد فؤاد نجم عن مثقف ريش.. أو يتظاهر المارة والساكنون من أجل الموافقة على وجود مسرح وموسيقى في مقهى قد يؤثر على سكون ليل منطقتهم ويقض مضجعهم الهادئ. ولكنها الحياة المعجونة بالتداخل والمحبة والوعي وإدراك لقيمة الفن. (أليست هذه مصر التي كانت تنتظر لحظة غناء أم كلثوم الخميس الأول من كل شهر في الراديو في البيوت والمقاهي وتتوقف الحياة لتستمع لها).
لكنها القاهرة
لم أكن أكتب سيرة من لحم ودم، لكنني كتبت سيرة بداخلها اللحم والدم والمواقف والأحداث والتغيرات، سيرة مدينة (ليست أي مدينة لكنها القاهرة، ويكفي اسمها القاهرة).
ومن خلال مقهى تتداخل فيه سيرته الخاصة من بنيان، ومالكين، ووثائق، وأحداث، وسير الحاضرين، والمارين عليه، وسيرة بشر مروا وأقاموا واختلطوا وتفاعلوا. ومع فتح عدسة الرؤية أوسع وأبعد من ذلك تتشكل سيرة المباني والشوارع والأمكنة بمن فيها وما فيها من حكايات. كلما ابتعدنا كلما كان وضوح صورة المدينة أكثر ارتكازاً على اتساع الرؤية واشتمالها، وكلما اقتربنا كان المقهى النموذج المصغر للسيرة. تتداخل وتتبادل فيه الشخصيتان أو الموقعان، موقع المقهى، وهو داخل الموقع الأكبر والأشمل، وهو المدينة التي ينبض قلبها.
هي ليست صنفاً بل هي تتبع للأصناف والأنساق المتعددة في سياق حضور الشخصية المركزية (المقهى في الظاهر المقدم كبطل للسيرة لكنه بطل لإظهار بطولة أخرى لشخصية أخرى) والشخصية المحورية و(هي المدينة، وهي التي تملك البطولة الحقيقية المطلقة في سياقها مع التاريخ والبشر والأحداث)، نتلصص عليها من ثقب صغير في جدار الحداثة الضخم، ثم تتسع الرؤية وتتعمق في زمن يفوق المائة عام.
كان اللعب على السرد كحكاية من خلالها تتفتح ألعاب كثيرة مثل البطولة، وعلى تعدد الأصوات، وأخذ المعلومة من أكثر من وسيط (تحليل الوثائق، وكتب التاريخ أو البحث عن التاريخ في السير والروايات والشعر، والحكايات المسرودة كتابة أو شفاهة من أكثر من وسيط باختلاف الرؤية أو اتفاقها)، ووضع أكثر من فكرة للبداية وللنهاية، وكيفية التقسيم الداخلي لتتبع شخصية المدينة في أحوال وتواريخ متفرقة، وكذلك المقهى، واللعب بتقديم بطل محدد لتنتهي البطولة لآخر هو المدينة في النهاية، والعمل على فكرة الحكي من نظرة من أعلى كنظرة الطائر المحلق وعند الشروع في الهبوط بتوسيع دائرة النظر ثم تركيزها وتضييقها على مكان ما من خلاله نعود ومن خلال عناصر أخرى للتحليق مرة أخرى.
في العلو كانت المدينة بفسيفسائها الكبير، وفي الهبوط كان المقهى تفصيلة له بتفاصيله ومنمنماته مقارنة بالمدينة، وبين دفتي كتاب أبدأ فيه سيرة أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، حيث يجرني كل شيء فيه لحكايات وسير وأحاديث، لأنتهي بعالم أشبه بواقع الحياة المصرية، فكلما فتحت حكاية ظهر بطلاً آخر لحكاية من خلال الحكاية الأولى.. وكما يقال (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة).
جريدة الخليج