ميسون صقر لـ «البيان »: «مقهى ريش» باب صغير لوطن كبير – حوار: ريم الكمالي

كما أنه نتاج جهد كبير، بحجم جهد مؤسسة أو نتاج عمل مجموعة باحثين، تقدمه لنا بلغة أنيقة مع حقائق ووقائع أشبه بقضايا إبداعية وجمالية متعلقة بمكان صغير الحجم، لكنه يكبر ويمتد لتحكمه الدهشة، بينما تبرع الكاتبة في استخراج ما في هذا المكان من ذاكرة وما لا يتوقع، لتتوالى الأحداث التاريخية والاجتماعية والفنية والسياسية تباعاً كأشجار الفردوس؛ وبالنتيجة، ينتصر مقهى ريش على النسيان، ويقدم أرشيفه الغني بواقعه ومعانيه.

«البيان» حاورت ميسون صقر حول كتابها القيم، وسيرة إنجازه والتجليات المعرفية التي أحاطت به.

من يقرأ «مقهى ريش.. عين على مصر» لميسون صقر، يجد أن الكتاب تاريخ يتفرع، وسيرة لشخصيات منسية تتشعب علاقتها بالمكان، كما أنه يغطي حقباً سياسية متنوعة، ويزخر بأسماء مؤثرة لها حضورها في التاريخ المعماري والاجتماعي.. وكل هذا يعود إلى «مقهى ريش»، وكأنه وطن كبير، فأي باب فتحته للدهشة؟

أشكرك جداً..

الكتاب هو رحلة بحث عن هذا الحضور الطاغي للمدينة وسيرتها وشخصيتها أيضاً، من خلال نقطة صغيرة فيها هي «المقهى». والمقهى هنا ليس مجرد مكان للجلوس فقط، لكنه وعاء ثقافي يحمل سيرة المكان والزمان ويؤرخ للأحداث والعلاقات.

وفي الحقيقة، يمثل الكتاب سيرة مدينة من خلال المقهى، بينما ترددات الحكي تعيد صياغته في سردية كبرى مع المدينة والواقع. لقد كنت اكتشف أن كل شيء يحدث في المدينة له لحظة تشكل في المقاهي والطرقات، وهناك أماكن اختصها التاريخ لتصبح جزءاً من مرآة الواقع في تجلياته وتأثيراته بأشكال متعددة، سواء في صياغته اللغوية أم تشكل ثقافته أم تعدد صوره؛ فهذا المقهى مثلاً رغم إدارته غير المصرية، إلا أنه اختص بتاريخ مصر من حيث الغناء والثقافة والتاريخ الموازي.

لم تكن السيرة منسية، لكنها سيرة تتجسد في كل شيء، ولها تردداتها في كثير من الأماكن والشخصيات والأحداث. هي سيرة القاهرة كوطن قوي الحضور، ويعبر عن نفسه من خلال سيرة المدينة والبشر والعمران والأحداث. ولكبر حجم الحكاية وضخامة السيرة، آثرت أن أنظر من بابه الصغير إلى دوره الكبير في لحظة كان للمقاهي وظيفتها في تكوين الصلات ما بين الواقع والبشر.

المقهى قبل وبعد، تقدمين للقارئ نصاً يتغذى على ثقافة هائلة من خلال توزيعك البحثي والنثري من مكان تنطلقين منه وكأنه كل الدنيا، حدثينا عن درجات الوعي وخطورة الكتابة وأنتِ تصافحين شراسة الحقائق؟

مرت على المقهى ثورات عدة أسهم فيها كجزء من نسيج الوطن بما يتبعه ذلك من انحياز لكفته، وغالباً ما تكون هنا لصالح الفكرة الوطنية المصرية فيه. فلم تكن هناك شراسة للحقائق مثلما تفضلت، لكن كان هناك عالم أربطه دائماً بما يشمله وما يشمل هو، لذا تحركت دائماً بين الزمن والمدينة والعمران والتغيرات الواقعة بشمولها في الواقع المشمول به المقهى.. كنت أرى أن للمقهى فكرة عن نفسه لا يرغب في زحزحتها وهو يحافظ على استمرارها، إنه ابن تاريخ كبير في التاريخ العام في الثورات والفن والأدب لا يريد أن تتزحزح عنه هذه الفكرة ولا تتطور، لأن ذلك يمحو تميزه وخصوصيته، لذلك دافع عن كونه خاصاً ومميزاً.

رؤية خاصة

تتبعك حكايات منسية وإعادة تقديمها من جديد، برؤى متعددة، أو تأتي أشبه بتأمل؛ هنا تظهر الباحثة ميسون في شخصية المبدعة التي تنسج رواية تاريخية، هل توافقينني؟

أظن أننا ننظر لكل ما حولنا بعين الرائي، وفي الذهن تتمركز الرؤية الأدبية للسرد وعوالمه وصيغ البحث من اكتشاف واشتغال، وهذا طبيعي فقد تنازعتني فكرتان: أحب أن أكتب عن هذا التاريخ الواسع، ولا أحب أن أكتب عن واقع المكان باعتباره مكاناً يرتاده الناس فقط، خصوصاً أنه كتب عنه الكثيرون. استكثرت أن أكتب عن مقهى كتب عنه بشكل صحافي العديد من المقالات، دون أن أكشف عن قيمته الإنسانية والثقافية والتاريخية الكبيرة.

بحث في كل اتجاه

ذكرت أنك بدأت منذ عام 2013 بمسح كامل للصحف والمجلات الورقية وكل ما يخص مقهى ريش، ونتيجة ذلك كانت هذا الكتاب الذي وثق الحالة التاريخية والفكرية للمجتمع القاهري المصري العربي. فكيف تجلى ذلك لميسون؟

كان ذلك من قبيل الصدفة وقبل فكرة الكتاب، كان نوعاً من الأرشفة لأوراق المقهى مع صاحبه رحمه الله، وذلك بعد أن رأيت الأوراق والوثائق التي كانت بحوزته، وقدرت أنها أوراق قيّمة، لذا عرضت عليه أن أتكفل بتصويرها داخل المقهى ومن ثم آخذ نسخة من الصور لعمل أرشفة لها في شكل ملفات خاصة بكل فرع منها، بحيث تقسم بين ما هو خاص بالمكان ومساحته وتقسيم الأرض، وبين ما له علاقة بالإدارة والمديرين وجنسياتهم ومدة عملهم ومراسلاتهم مع الجهات الإدارية الحكومية والتراخيص… وغيرها، وتأثير الفترة الزمنية وأحداث المدينة على تلك الأحداث الداخلية، أي إرجاع كل ما يحدث في الداخل إلى مصدر الحدث الأكبر خارجياً، والعكس، فكل عمل يحدث في الداخل له تأثير خارجي، أو استقراء كل عمل وما يحدث من نهضة فنية أو نشاط ثقافي ينم عن حال تلك المدينة في مجملها. كانت هذه بداية هذا العمل الشاق والممتع الذي بدأت فكرته عام 2010 تقريباً.

كنت كمن يقلب أوراق أبطال رواية وأتمعن في علاقاتهم، وفي الأثناء تحولت البطولة من الأشخاص إلى الأحداث، ثم تحولت إلى المكان نفسه، وما بداخله وما هو خارجه، وما حوله يؤثر ويتأثر به، وكلا الوضعين وعلاقتهما بالوضع العام الأفقي الهرمي باعتبار المقهى في وسط المدينة، في القاهرة في مصر. وبذلك يضفي كل من هذه التراكيب الهرمية في ما يليه ويضيف إليه بعداً جديداً (مثل فكرة تقصي الأنساب، مثلاً، تجد أن كل جد يضيف ويحيل ويربط ويعطي دلالة)، أيضاً على مستوى دلالة التتابع والتركيب، إذ كل تاريخ يبنى من خلال تاريخ سابق، وتواريخ متتابعة وأجيال متداخلة فيها الأصيل (التاريخ المرتبط بالشعب) وفيها المهجن (المرتبط بتواريخ الغرباء المندمجين والمحبين لمصر كوطن آخر لهم)، ولذلك نجد أن هذا المقهى يتبع الفكرة المصرية وينتمي لها رغم تعدد أصحابه على مستوى الأشخاص.

مدينة معتقة

من خلال صور ملاك المقهى، وأوراق الملكيات، والوثائق الأخرى من صور المعمار والأبنية، مع سردك الوافي لكل ذلك وأكثر، منحتِ القارئ تفسيراً لما كانت عليه القاهرة كـ (مدينة معتقة أكثر مما هي عتيقة)، كما عنونتي، فبماذا تعلقين وكيف تفسرين؟

هذه مقولة للكبير جمال حمدان، وقد أفنى حياته لمعرفة هذا اللغز. وكنت أتساءل كيف تكون معتقة أكثر مما هي عتيقة. وجدت السر في تفاصيل هذه المدينة فتاريخها هو تواريخ عدة من خلال البشر والأمكنة والجغرافيا والعمارة والتفاصيل، ونستطيع أن نجد لكل تفصيله، ولكل فكرة حكايات وتفاصيل ومنمنمات وأسئلة وتحليلاً وسرداً مرتبطاً بشكل تراكمي مع المدينة.

جهد شاق

تقولين إنك لست من النوع الذي يرتاد المقاهي كثيراً، ولا من الذين يتعلقون بها، لكنك سردت توثيقاً حتى عن الطوائف في مصر وتشتتها، خصوصاً الصاغة والصناع والتجار ومهنهم… هل هذا تأسيس لبحث آخر؟ أو تبيان لحقيقة أخرى؟

هو جهد شاق يحتاج إلى الصمت والتحقيق والمتابعة والبحث أكثر من الجلوس والتمعن في وجوه الحاضرين فقط، لأن المقهى متعدد الأفكار والأحوال من فترة لأخرى، ففي الأربعينات كان مختلفاً في دوره وشكله وتماهيه عن فترة الستينات، ومختلفاً عن فترة التسعينات، ومختلفاً عن فترة الثورة.. أي أنني لا أنظر إليه من خلال الصورة النمطية لفكرة المقهى، بل من خلال بحث يتقصى مثل هذه التغيرات والتحولات.

سجلات

مقهى ريش شهد أيضاً اشتباكات الأدباء، ومشاكساتهم، وطلبات الأطعمة عبر النوتات، وتفاصيل شيقة تصل إلى واقع أشبه بخيال سينمائي، في جغرافية صغيرة أشبه بعاصمة للعالم، فكيف كان اشتغالك في هذا البعد الجمالي مع صناعة متعمدة؟

حين أقوم بعمل ما، لا بد من اشتمال العمل على تفاصيل كبيرة وأخرى هامشية. وقد تكون كل حصاة أو تفصيلة صغيرة هامشية هي جزء مفصلي من تفسير وإضفاء قيمة ما للعمل، هذا أسلوب من الأساليب، لكن هناك أيضاً فكرة الدمج واستخلاص ربط بعض الأمور ببعضها، فمثلاً طلبات الأطعمة تفتح مجال التغييرات في المنيوهات (قوائم الطلبات) ومنها قد نستشف حال المقهى من تطور أو تراجع، ويمكننا معرفة حال مرتاديه ومدى ازدهار المدينة أو تراجعها، انفتاحها أو انغلاقها، كان تساؤلاً هاجساً ظل معي حتى وجدت حله مع دراسة بعض سجلات البيع والشراء.

سيرة البشر

الكتابة موقف بطولي، وما قمتِ به من بحث وجهد وكشف إنساني هو ابتكار بحد ذاته، فهل وظفتِ الحب لتقومي بكل ذلك؟

الحب موجود بالطبع، لكن هناك توظيف لطاقتي الكاملة من تحليل وتعميق للأفكار ومن البحث والتفصيل والتعميق له والتجميع والبحث والتنقيب والركض وراء أي ضوء ولو خافت، والتجريب في تحليل واستنتاج وتعقيب وملامسة الواقع بالخيال، والخيال بالماضي، والماضي بربطه بالوقائع والأحداث وجماليات الحكاية، والبناء حولها بحيث تتوالد الحكايات من بعضها دون نسيان أن الإنسان مركز كل هذا. هذه هي سيرة البشر في مساحة معمارية وتاريخية نشأت من خلالها سيرة المقهى باعتباره كائناً يتنفس ويحيا، يحب ويكره.

أنسنة المكان

في القرن العشرين كان المقهى ملاذ المبدع، يحتمي فيه من عواصف الحزن، ورغم الوثائق وجدية البحث، فإن من الجميل ذكرك قصص الحب بين الأدباء التي أدت إلى ارتباط لا ينسى، مثل قصة روز اليوسف وعبد القدوس، وعبلة الرويني وأمل دنقل، وقصص أخرى هي بحد ذاتها روايات من الواقع…

لقد رغبت في أنسنة المكان من خلال علاقته الطردية بالمدينة، التي كانت قلباً ينبض بالحداثة والتغيير والانفتاح وتقبل الجديد. ومن مظاهر ذلك كله وجود هذا الحب وتنوعه بين فئات اختارت أن يمثلها المقهى ويشبهها، واللافت إن جنبات المقهى اتسعت لهكذا معنى مع أحداث ارتبطت بتاريخ مصر سياسياً وأدبياً وفنياً. ولا بد من التأكيد على ذلك الحضور الثقافي والفني المصري المترابط الذي نجح المقهى أن يؤسسه وأن يمثله عبر كل تاريخه.

ميسون صقر لـ «البيان »: «مقهى ريش» باب صغير لوطن كبير – حوار: ريم الكمالي
جريدة البيان