“موطني” مُشبع بروح العودة حتى قبل أن يحل الشتات وهو نشيد معني بفكرة الوطن وليس الدولة.
كنت لم أسمع أنشودة “موطني” الأصلية من كلمات الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان ومن تلحين الموسيقار اللبناني محمد فليفل منذ زمن بعيد، عندما بُثت على إحدى الإذاعات المحلية خلال توجهي في سيارة أجرة إلى المنزل.
نشيد موطني هو نشيد تراثي فلسطيني يعود لعام 1934 وقد استخدم نشيدا وطنيا فلسطينيا منذ زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، وهو النشيد الوطني العراقي المستخدم حاليا منذ سقوط نظام صدام حسين وقد اعتمد رسميا عام 2005.
كمن يستمع لنشيد “موطني” لأول مرة ذهلت بروعته ومباشرته المُحتفظة بظلالها كمصنع لولادة صور إضافية هي قيض التشكيل، بعد مرور عدة دقائق وفي وسط “عجقة” سير خانقة وجدتني أبحث عنه على جوالي لأستمع إليه بتمعن وبانشغال أكبر، المرة تلو المرة من خلال السماعات التي وضعتها على أذني حتى غبت في عباب هذا النشيد البليغ الأثر كلمة ولحنا، وأنا أحدق في السائق وهو منهمك بتلويح ذراعيه في فضاء سيارته ورمي الشتائم غضبا من اختناق الشوارع وضجيج الزمامير.
عندما وصلت إلى البيت وأمامي جهاز الكمبيوتر استمعت إلى أهم الأناشيد الوطنية العالمية والعربية عبثا لم أجد مثيلا له، وقد بدت الأناشيد الغربية بشكل خاص وشبه حصري أناشيد باهتة أمام توهج نشيد “موطني”.
عدت إلى سماع النشيد وقد بلغ بي التأثر درجة كبيرة لا سيما بعد أن قرأت عن تاريخه ومساره، وأكثر ما أثر بي معلومتان: ما قرأت عن الشاعر إبراهيم طوقان الذي توفي وهو في عز شبابه بعد أن خلّد قضية وطنه فلسطين في عدّة قصائد وطنية، مثل “الشهيد” و“الثلاثاء الحمراء” و“اشتروا الأرض”، أما المعلومة الثانية فهي أن هذا النشيد كان النشيد الفلسطيني قبل أن يتم استبداله بنشيد “فدائي” بسبب اعتراض الإسرائيليين على نشيد موطني، واشتراطهم تغييره قبل بدء المفاوضات مع الجانب الفلسطيني.
إن المقارنة بين النشيدين كفيلة بأن تضعنا أمام الأسباب التي جعلت النشيد الثاني “مقبولا” عوضا عن الأول، على الرغم من أن غالبية الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها لا تزال تعتمد “قلبيا” نشيد موطني.
وإذا كان لا بد من الاختصار، فيمكن القول إن نشيد موطني مُشبع بروح “العودة” حتى قبل أن يحل الشتات وهو نشيد معني بفكرة الوطن وليس الدولة، وناطق باسم شعب تخطى اسمه وكيانه ووحد ما بين الماضي والحاضر وأحلام المستقبل. نشيد كامل لا ينحصر في حمل السلاح كما في نشيد “فدائي” الذي جعل من الفلسطينيين دون غيرهم “مجموعة ناس” تناضل لخلاصها، هذا إذا لم نذكر الشعرية الطازجة واللحن المفتوح الذي أبدع محمد فليفل في تأليفه.
وأخذني هذا النشيد الفذ إلى البحث في الأعمال الفنية العربية الرائدة التي لا تحصى والتي تجسدت فيها الأوطان العربية الشرق أوسطية جنات غناء تتنفس السلام على أوجهه المختلفة وذلك قبل أن تصير الأوطان، أو الأحق القول، “الوطن المُشظى” مرتعا للموت والشتات والفساد والجراح في الأعمال الفنية المعاصرة لا سيما الفلسطينية والعراقية والسورية واللبنانية على اختلاف الأنماط الفنية المُعتمدة.
وضعني نشيد موطني أمام موقف راسخ وقاطع، وهو أنه ليس هناك، وربما لن يكون هناك أبلغ منه عابر للأزمان والأوطان العربية ليجسد الآن أكثر من الأمس ليس الوحدة العربية، بل وحدة حال الشعوب العربية (وليس الدول) بكل ما تختبره من أسى مشترك وعيش مُنكد وذل يبدو مؤبدا، وما تضمره من أحلام بأن تكون شعوبا سالمة ومنعمة وغانمة ومُكرمة انطلاقا من كلمات “موطني”.
أحلام نفهمها جميعا ويبثها عميقا فينا كالسحر هذا النشيد وموسيقاه البليغة على أنها أحلام لا بد أن تتحقق.