من الشاعر؟ – بقلم أحمد الشهاوي

احمد الشهاوي

كان هيجل محقاً عندما قال إن «الشاعر لا يوجد بالقوة بل بالفعل»، بالنص لا بالنصر الإعلامى، بحضور الحرف، لا بحرفة الدعاية، بالرؤية لا بالزفة، بالمعرفة لا بمغرفة «الشلة» والجماعة، بذهب القول لا بزيف «النقد» المصاحب؛ فهناك شعراء (وكُتاب) أسماؤهم أكبر من آثارهم التى تركوها وراءهم تصارع فى الحياة وحدها، لكن غربال الزمن قادر على فعل التصفية والتنقية بغربلة لا ترحم، لأن الشعر لا يحتاج إلى اعتراف من أحد، ولا إلى دليل، فالشاعر يعيش بتنوعه الخلاق، وخياله الغنى الفياض اللامتناهى، حيث يختاره النص وليس هو من يختار الكتابة، الشاعر مجرد، حذاف، شديد الكثافة، موجز، وموح.. الشاعر حيوى، منطلق، شاطح، لا تقيده حدود أو أعراف جمالية أو فنية عوالمه، صامت، بعيد عن الثرثرة، خالق أساطير، حواره الذاتى الباطنى أعلى من سواه، ذو فيض طبيعى لا ينضب، هو كيميائى من طراز خاص، يعيش طوال حياته فى المصهر، يشطف نار ذهبه، لا يتاجر بأفكاره، يساوره قلق الخلق وتوتر الابتكار، يكدح أدبيا كأنه فى صراع مع الحياة، ومع النفس، فالشاعر يعيش بالشعر ويكتب حياته، وقد اختار عبودية العمل الذى لا ينقطع مهما تكن المغريات والملذات فى الحياة، وهى كثيرة، يعيش فى تأمل وبحث ومقارنة من دون انقطاع لوصله المتصل.. الشاعر يكره الأنساق والسياقات والأقفاص والأدراج والأصنام والصور الجاهزة الموروثة، إذ هو حر من كل أسر، يشعل نيرانا غريبة ويؤججها، ويكشف كواكب مجهولة، يتدفق النص من رأس روحه كماء العين.. الشاعر لا يدرى سر صنعته، ولا جوهر خلقه، ولا يعرف شيئا عن نتاجه، بل كثيرا ما يسأل: كيف كتبت ذلك؟ ومتى؟ لأن الشاعر كائنان: خارجى، وداخلى، لكنه يعوّل كثيرا على الداخلى (الباطنى الصموت) فيه، وقد يكره المحيطون به ذلك الخارجى الذى قد يكون معاكسا ومضادا لوجه الشاعر الآخر، فهو ابن الأشتات والمتناقضات والمتضادات، لا يثق إلا فى شجاعته، والتى ربما لا يمتلك غيرها، إضافة إلى امتلاكه «طاقة الخلق».

الشاعر لا يتبع قاعدة ما، يطبق بنودها أو شروطها فى نتاجه، ذلك النتاج الذى لا يكتب فيه ذاته وغيرها، أو يمزجهما معا ككيميائى عارف مجرب خبير، يرى ما يريد، يأتى الموصوف المجهول إليه، أو يذهب هو إليه، لا يبحث عن حل أو إجابة، يجوب الأكوان فى الحقيقة والخيال معا، يرى العوالم بحدسه وحسه الذى يستشرف الآتى ويحملها إلى نصه، لديه قدرة فى دماغه على «إزالة نواميس المكان والزمان»، يمزج «الأنا» بـ «الهو» فيما يكتب، حيث ينوع ويغير فى وسائل التعبير فى النص الواحد، أو فى الكتاب الواحد.. الشاعر يستعيد سيرته وذكرياته وماضيه، كى يكون الهواء شفيفا ونقيا وصالحا للتنفس داخل النص، وتلعب الآلام والعذابات والمآسى، فى الطفولة أو فى الحياة بشكل عام، دورا فى صوغ جوهر الشاعر، وأظن أنها الأخصب فى صب النار فى عمق روحه، والمثير والملهم، حيث يصب الشاعر هذه الأحزان فى ماء نصه.

الشاعر يبنى ويهدم بخياله اللامتناهى الحدود ما لم يبنه أو يهدمه فى الواقع الذى يعيش؛ فهو يثأر بخياله، ويزأر، ويعشق أيضا، ويشتهى، حيث يستلهم من سيرته ويستوحى؛ لأن السيرة حاضرة، وحاضر يستمر ويمشى مع الشاعر، ويصحبه حتى لو كان ماضيا.

المصري اليوم