“لم يبقَ من مدينة الكويت القديمة سوى بعض المعالم والديوانيات القليلة المتناثرة عند واجهتها البحرية.
فقد قضى “التثمين” والتطور العمراني الحديث على صورة المدينة وأحيائها القديمة. والآن، وبعد نحو ثلاثة أرباع القرن يتساءل أبناء هذا الجيل عن بيوت آبائهم وأجدادهم، وعن النمط العمراني الذي كانوا يعيشون في ظله”.
الفقرة أعلاه جزء من مقدمة كتبها الصديق العزيز الأستاذ الدكتور عبدالله يوسف الغنيم، رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية، وذلك لإصدار المركز الجديد والمعنون بـ “معالم مدينة الكويت القديمة”، الذي صدر منه حتى كتابة هذا المقال جزءان؛ الأول بعنوان “نواة مدينة الكويت القديمة”، والثاني بعنوان “فريج الشيوخ وفريج غنيم وفريج سعود والشارع الجديد”، ومن نافل القول الإشارة إلى أنّ كلمة “فريج” تعني باللهجة الكويتي الحيّ!
بداية، لا بدَّ من التأكيد، ودون كثير مبالغة، أن هذه الدراسة وما تمخّض عنها تُعدّ بحق واحدة من أهم الدراسات العمرانية العلمية التي تناولت معالم وأحياء مدينة الكويت القديمة، وهي بذلك تحفظ بشكل عصري تاريخاً قارب على الاندثار تماماً.
وإذا كان د. الغنيم يعزي ذلك للتثمين والتطور العمراني، فإنّ سبباً ثالثاً يستحق الذكر ويستحق الالتفات إليه، وأعني بذلك عدم وجود وعي عمراني، وفي حالة وجوده لدى قلة من المشتغلين بالعمارة، فإنه مع الأسف لا أحد يستمع لشكواهم، ولا أحد يعير تلك الشكوى ما تستحق من أهمية.
وهذا أحد أهم الأسباب في اختفاء معالم مدينة الكويت، وعيش أجيال من أبنائنا غربة كبيرة عن عمارة ماضيهم، فإذا كان التثمين والتطور العمراني قد أعطيا الأهالي سبباً مسوِّغاً لترك بيوتهم القديمة، والزحف نحو المناطق الجديدة للاستقرار فيها، فما تراه السبب الذي جعل الجهات الحكومية، البلدية والأشغال، تُقدم بكل قسوة وهمجية، على محو آثار تلك البيوت والفرجان وتاريخ حياة الإنسان الكويتي، وما الذي يجعلها تصرّ، حتى يومنا الراهن، على هدم كل ما يتم إلى الماضي بصِلة؟
مخطئ مَن يعتقد أن بيوت وعماير وسكيك شرق والقبلة والمرقاب، ومعالم شاطئ الخليج، السِيف، إنما تخصّ المكان، وأنّ الفزعة للجديد تكفي وتبرر تماماً هدم كل شيء، وإقامة مبانٍ خرسانية عالية مكانها، وفي مرحلة قادمة هدم تلك المباني، بما تحمل من تاريخ وحيوات للبشر، وإقامة مبان جديدة عليها، وهكذا تعيش أجيال من أبناء الكويت في غربة عن تاريخها المعماري، وغربة عن حياة الآباء والأجداد، وغربة عن نمط الحياة والتفكير والسلوك الاجتماعي والاقتصادي، وحتى السياسي.
إن جهداً مضنياً وصعباً قام به فريق من المختصين، سواء كانوا معماريين أو جغرافيين أو تاريخيين، وبقيادة المايسترو المشرف العام د. عبدالله الغنيم، إنما هو جهد لافت يستحق أن يصل لكل بيت، ويستحق أن يكون دون تأخير جزءاً لا يتجرأ من المناهج الدراسية في الكويت من الابتدائي وحتى رياض الأطفال.
فالعالم بأسره يعيش عصر العولمة، ونشء وشباب العالم من أقصاه إلى أقصاه يعيشون على ما تقدّمه لهم شبكات التواصل الاجتماعي، والقنوات التلفزيونية الخاصة، وهم بذلك يعيشون بانتماء عالمي، أكثر من انتمائهم المحلي القومي، خاصة أن الانتماء العالمي، وفي أكثر الأحيان يأتي بشكل تغريبي، ويأتي بشيء منافٍ للأخلاق، ويأتي لخلق نمط وقولبة السلوك الإنساني ليكون كما يُراد له في دوائر الإعلام العالمية. وهذا الرأي لا يخضع لنظرية المؤامرة بقدر ما يقول حقيقة واقعة لا مجال لدحضها!
م. صلاح علي الفاضل، أ. فهد علي الشعلة، أ. د. وليد عبدالله المنيس، د. مها سعد الفرج، أ. فهد غازي العبدالجليل، د. فيصل عادل الوزان، هم الكتيبة وراء هذا الإصدار المهم، والذي لا يأتي ليسدّ نقصاً كبيراً في المكتبة الكويتية، لكنّه يأتي ليسد نقصاً يبدو واضحاً في انتماء الإنسان الكويتي لتاريخه ووطنه!
أخي الأستاذ الدكتور عبدالله الغنيم، قلتُ عنك مرة، وفي هذه الزاوية، إنك نموذج لعالم مخلص لوطنه وعلمه، وها أنا أكرر ذلك وأزيد عليه، ومهمومٌ ومشتغلٌ بحفظ تراث أهله ووطنه وأمته!
الجريدة