اقتحم الموريتاني محمد فاضل عبد اللطيف بحماس متألق عالم الرواية، حيث وجد مساحة رحبة تقربه من الواقع، مغادراً ميادين الشعر بعد أن قضى فيها ردحاً من الزمن، أسهم لا شك في صقل شخصيته كروائي، وبذلك الاقتحام نجح في لفت العيون إلى ساحة روائية عربية لا تزال تتوارى في الظل، هي الساحة الموريتانية، رغم وجود أسماء كبيرة مثل موسى ولد أبنو وأحمدو ولد عبد القادر.
ورغم نشأته في المملكة العربية السعودية، إلا أن إنتاجه الأدبي التزم السير في النسق الموريتاني، ودأب على القول إن «لدى الروائيين الموريتانيين ما يقولونه»، فرفد رواية بلده بروايتين الأولى تحت عنوان «تيرانجا» والتي حصل عنها على جائزة الشارقة للإبداع العربي في عام 2013، والثانية «كتاب الردة» الحائزة على جائزة نجيب محفوظ 2020، لينقش اسمه ضمن أبرز روائيي موريتانيا.
عين الروائي عبد اللطيف، لم تكن مفتوحة على التاريخ والمجتمع الموريتاني فقط، وإنما التقطت الجمال في مكة المكرمة التي ولد وترعرع بين شعابها، ثم في دانة الدنيا التي حط بها رحاله فأسرته بألوانها الزاهية وأطيافها المتعايشة في ود وسلام، واعتبر عبد اللطيف في حديثه لـ «البيان» أن دبي بيئة خصبة تلهم أي مبدع في مجاله، وعن نفسه قال إنه يرقب المدينة وديناميكيتها وإيقاعها ليشكل أساساً لإبداعه..
* جائزة نجيب محفوظ.. ما الذي تمثله لك كأديب.. ولوطنك ؟
– جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية، لا شك تشكل نقلة في المسار الشخصي، كما تشكل نقلة في مسار السرد الموريتاني بشكل عام، ولا يخفى أن الجوائز تمنح الأعمال ألقاً وتجتليها لدى القراء والمكتبات، وهذا ملاحظ من التفاعل الإعلامي والاهتمام بهذه الرواية التي صدرت قبل عامين من الآن. فدائماً تكون الجوائز هي إعادة اكتشاف، أو إعادة تسليط الأضواء على أعمال سابقة، سواء منحت لعمل أم لمجمل الأعمال، فهي عادة ما تسلط أضواء جديدة على أعمال سابقة وتمنحها ألقاً ودفعة إلى الأمام وتقدّم لها مبررات أيضاً لإعادة قراءتها من قبل القراء. فهي بهذا المعنى مهمة جداً بالنسبة لي شخصياً ومهمة كما أسلفت للنسق الروائي الموريتاني العام الذي يعاني من فقر في استحصال الجوائز، سواء أكانت عربية أم دولية.
* دأبت على ترديد أن لدى الروائيين الموريتانيين ما يقولونه.. فما هو؟
– الروائي الموريتاني لديه ما يقوله من جهات عدة، أولاً هو لم يستنزف روائياً، فالنسق الروائي الموريتاني حديث، فنحن نتحدث عن أربعة عقود فقط من كتابة الرواية بشكل متباعد جداً، ومازال لديه مخزون كبير من المشكلات والعقد والأفكار المركبة للحديث عنها، وأيضاً لديه تجربة الدولة التي لم تتناولها الرواية الموريتانية كثيراً. أغلب الروايات الموريتانية تتحدث عن «العصر الشنقيطي»، ما قبل الدولة، فالروايات المدنية التي تعالج هموم الدولة والواقع والمجتمع المعاصر في أصل الدولة قليلة جداً، فهو من هذا الجانب لديه ما يقوله. ومن جهة الزمن والتراكم الروائي أيضاً لديه ما يقوله. فالمجمل العام للإصدارات الروائية الموريتانية مازال ضئيلاً جداً، قياساً بالدول العربية الأخرى.
* كيف تعتبر نفسك روائياً موريتانياً وقد نشأت في الخليج (السعودية)، تكوينك الفكري يعتبر خليجياً.. لماذا تنسب إنتاجك الأدبي لموريتانيا؟
– لا أهتم كثيراً بالنسبة، والحقيقة أنني أتشظى بين هويات وانتماءات عدة، ولا شك أن أحد أكثر هذه الانتماءات أصالة وقرباً من ذاتي الانتماء الموريتاني. وأعمالي التي صدرت حتى الآن، على قلتها، تتناول قضايا موريتانية عدة، وهموم موريتانية بالدرجة الأولى. ومن هذه الناحية، يمكن ببلوغرافياً تصنيف العمل حسب موضوعه وتصنيف الموضوع المعروف، فأنا حتى الآن لم أتناول إلا قضايا موريتانية، وأنا من الناحية الواقعية، كاتب موريتاني أحمل جنسية هذا البلد، قد أنتمي إلى أنساق أدبية مختلفة بحكم التنشئة، لكن النسق الأبرز في حياتي والأكثر أصالة هو النسق الموريتاني الذي أحرص دائماً على التعبير عنه من خلال أعمالي.
* هل ترى أنه يجب على المبدع أن يعود لجذره زماناً ومكاناً، أم عليه ان يعكس واقعه الذي عاش فيه؟
– قصة الرواية التي نتحدث عنها زمنها قريب جداً، فهي تدور من 2003، صعوداً وليس نزولاً، فهي قريبة الزمن روائياً، وفي «تيرانجا» تناولت زمناً أقدم، أي مرحلة 1966-1989، هذه الرواية زمنها حديث جداً، والروايات عادة لا تتناول الأزمنة الحديثة، لأن الزمن يحتاج إلى وقت كي يتخثّر ويتخمّر ويصبح حتى لديه نوستالوجيا تجاه هذا الزمن وحنين من القراء، تجد الآن الناس متعلقة بالأربعينيات أو الثلاثينيات أو العشرينيات. روائياً الزمن يحتاج إلى وقت لكي ينضج. هنالك أعمال كثيرة قامت بهذه المجازفة، تناولت أزمنة أكثر حداثة، وهنالك روايات تتحدث عن الواقع اليومي المعاش، فالزمن لا يعني شيئاً بقدر ما تعني المعالجة التي تتم داخل هذا الإطار، فهو كادر في النهاية.
* أثارت الرواية عند صدورها ضجة.. هل ترى أن لهذه الضجة مسوغاً واضحاً أم هي محض مزايدة؟
– بالعكس، أنا سعيد جداً، أن يثير أي عمل أقوم به ضجة، ولا أعتقد أن هناك مؤلفاً يمانع أن يثير عمله زوبعة، لأن الأعمال التي تثير الزوابع تلقي حجراً في الراكد في الحياة الثقافية وهي الأعمال الثقافية التي أسهمت في الواقع، هي التي قدّمت سبباً للنقاش وفتحت نافذة للحديث، حتى ولو كان على شكل خصام واختلاف، فما ينتج عن ذلك لا يهم، سواء أكان حملات إعلامية أم استهدافاً شخصياً، هذه أزمان على العمل أن يدفعها وصاحب العمل أيضاً لكي يكون جديراً بالمتابعة. لا أعتقد أن هناك عملاً ذا قيمة برز في تاريخنا الأدبي لم يثر زوبعة، فالزوبعة أحد الأعراض المصاحبة للأعمال التي تثير اهتمام الناس والنسق أو الضابط في هذا الأمر.
* موريتانيا معروفة ومشهورة بالشعر، وأنت بدأت شاعراً، كيف استطعت أن تغلّب الرواية على الشعر؟ وهل سيغلب الروائي الشاعر في موريتانيا؟
– نعم، بدأت شاعراً ككثير من الروائيين الموريتانيين، إن لم يكن كل الروائيين الموريتانيين، عدا قلة قليلة منهم. ثم انتقلت في مرحلة بعد إصداري ديوانين شعريين إلى عالم الرواية، ووجدت في الرواية المساحة الأرحب، واللغة أكثر اتزاناً والأبعد عن المزاج والمجاز اللغوي، وأيضاً وجدت فيها الوسيلة الأحدث، القادرة على تحميل أفكار بشكل مقبول، واكتشفت أن هذا هو المجال الذي أشعر فيه بالمقدرة على تمرير الرسائل التي لديّ، وأحسست أنها الميدان المفضّل بالنسبة لي. توقفت عن الشعر، ولا أتحرّق ولا أشعر بالندم على مغادرتي ساحة الشعر، وأيضاً لا أشعر أن تلك الأيام كانت هدراً، فهي تجربة أوصلت إلى شيء معين.
* ما الفارق بين الأديب والشاعر، أو الروائي والشاعر؟
– أعتقد أن الفارق بينهما فارق مزاجي فقط، فارق ذهني لطبيعة الذهنية، يمكن للروائي أن يكون براغماتياً أكثر وواقعياً أكثر وأكثر فاعلية من الشاعر. بينما الشاعر، كما هو نمطي لدينا في أذهاننا، سادر في أوديته، غير مباشر في لغته، يفضّل تبرير الانفعال من تمرير الفكرة، يفضل تمرير الصورة المُتخيَّلة عن تمرير الواقع، فهو مموه بطبيعته وبلغته.
* فلنتحدث عن الأدب الإماراتي.. هل لفتتك تجارب معينة؟
– لديّ اطلاع على الأدب الإماراتي، وأخيراً دخلت في تعاون مع مكتبات دبي العالمية، واطلعت على نماذج كثيرة من الأدب الإماراتي، وكنت سابقاً لديّ إلمام بسيط، لكن توسع أخيراً منذ انتقلت إلى الإمارات. هناك تجارب واعدة ومهمة وهناك أسماء كبيرة أيضاً، ولا ننسى أن الأدب الإماراتي قدّم أسماء كبيرة على مختلف الصعد، سواء في الشعر وفي الرواية وفي النقد، فهناك أسماء بارزة وقامات على مستوى الوطن العربي، وأعتقد أن الإمارات تسير في مسار متكامل على مستوى التنمية الفكرية والأدبية والفنية أيضاً، وهذا طبيعي نتيجة للخطط والتأهيل والمتاح أيضاً من الإمكانيات البشرية والتنظيمية، فالمجال هنا أكثر انفتاحاً وأكثر تحفيزاً إلى الأمام، وهو يشي بالكثير في المستقبل إن شاء الله.
* هل استفزتك دبي عبر الخليط بهذه التجربة بكل جوانبها وأوحت إليك بفكرة لكي تعود بنواة عمل روائي؟
– كثيراً ما أوحت لي دبي بمواضيع روائية، خصوصاً المنطقة القديمة من دبي، وسكنت هناك لفترة من الزمن بداية قدومي إلى دبي، وهي الجانب الذي يضج بالحياة من دبي بمختلف الجنسيات والانصهار العجيب لهذه التجارب البشرية المختلفة، أوحى إليّ بالكثير من الأفكار، سواء على مستوى القصة القصيرة، وأنا أكتب القصة القصيرة ولديّ مجموعة جاهزة، أم على مستوى عمل روائي طويل، لكني في الحقيقة لم أدخل في هذه المغامرة، إذ إن الكتاب عن مجتمع أنت جديد عليه في النهاية أنا أصنفه بالمغامرة، ولكن الوقت إن شاء الله متاح مستقبلاً بمزيد من التفاعل والخروج بأفكار روائية أكثر نضجاً. وأنا أفضّل دائماً الفكرة الناضجة التي تلم بها من كل الجوانب والتي أيضاً أنفقت قدراً من الزمن في التعامل والتفاعل معها.
* بالنسبة لأعمالك هذه.. هل يمكن أن تتحول إلى عمل تلفزيوني؟
– الرواية بشكل عام قابلة في أي وقت للتحوُّل للتجسُّد على الشاشة أو إلى نقلها إلى عمل مصور مرئي، فهي أكثر صلة بالصورة من الأنساق الأدبية الأخرى. كانت هناك تجربة قبل سنتين بالتعاون مع المعهد الفرنسي للثقافة الأفريقية أو معهد الثقافة الفرنسية في أفريقيا، كانت هناك محاولة لتجسيد مقاطع من الرواية الأولى «تيرانجا»، وتوقف هذا التعاون لأسباب لاحقة، ولكن مستقبلاً لا استبعد.
* لماذا لم يهتم المشارقة بالأدب المغاربي، هل هو خطأ المغاربة نفسهم؟
– الأمر تاريخي، ابن خلدون عندما جاء إلى القاهرة تحدث عن هذا في تاريخ المبتدأ والخبر، وتحدث حتى عن التمايز، وتحدث مجايلوه عن نمط حياته الذي كان يظهر تمايز ابن خلدون، وهو شيخ من شيوخ المالكية في الأزهر ومقيم في القاهرة، وهو متمايز ثقافياً لدى المجتمع المصري من خلال ملبسه، والذي حرص على ارتداء الملابس المغربية والأندلسية وحرص أيضاً على نمط الحياة من أكل إلى عادات المنزل إلى آخره. فهناك تمايز ثقافي تاريخي بين الشرق والغرب في العالم العربي، هذا التمايز كان في المحصلة لأشكال عدة من التمايز الأخرى، ودوائر التمايز هذه شكلت نوعاً من العزلة الثقافية، وأصبح هناك خط مشرقي وخط مغربي في مرحلة من المراحل وأصبح محكم الإغلاق أمام الفئتين، وأنا في مرحلة من المراحل كنت متعاوناً كقارئ مخطوطات أندلسية في مكتبة الحرم النبوي، توجد لديهم مخطوطات قادمة من المغرب العربي، من تونس وموريتانيا يحتاجون إلى قراء يقرأونها لتطبع كنص ولا يستطيعون قراءتها.
وفي مرحلة من المراحل كنت أعمل هذا العمل. فهناك كثير من أشكال القطيع الثقافية. أيضاً المغرب العربي أقل تنوعاً من المشرق، فهو أحادي المذهب.. مذهب مالكي فقط، لا توجد مذاهب أخرى، ولا يوجد طوائف أخرى، ولا يوجد أديان أخرى، فهو أحادي، فهذه الأحادية أدخلته في دوائر عميقة من العزلة. أيضاً التمايز العرقي المكوِّن الأساسي في شمال أفريقيا والمغرب العربي هو المكوِّن الأمازيغي، هذا المكوِّن مُنْبَتّ الصلة نهائياً بالشرق، لا يوجد أي تمثيل في الشرق. معطيات كثيرة.. توِّج هذا أخيراً بطبيعة الاستعمار في غرب القارة، كان استعماراً فرنسياً، بينما كان التفاعل في شرق القارة مع الثقافة الإنجليزية أكثر، والثقافات الأخرى كالفارسية والهندية أو التركية… إلخ، هذه المؤثرات الثقافية لم تكن حاضرة وفاعلة.
* إذاً، هو تجاهل حتمي؟
– هو مسار طويل من العزلة، ولكي لا نقول القطيعة، لن تحدث هناك قطيعة إطلاقاً، ظل المغرب على إعجابه الشديد بالمشرق، ظل المشرق على إعجابه السحري بأجواء المغرب وبجمالياته، لكن لم يحدث التفاعل الثقافي الذي يُنْتِج المُنْتَج الأدبي، وأعتقد أن تفاعل المشرق العربي مع آسيا الوسطى ومع الشرق الآسيوي كان أكثر من تفاعلي مع المغرب العربي.
* هل يعود ذلك لاختلاف التوجهات، وبروز الأبعاد الفلسفية وتعقيد في النصوص؟!
– يمكن أن تقول إن المغرب العربي كان أفلاطوني التوجه، والمشرق كان أرسطوي التوجه، هناك فوارق كثيرة بين التجربتين، فالتجربة المشرقية كانت أكثر ملحمية وأكثر واقعية، وأكثر تراجيدية، وأكثر تقلبات وإثارة، بينما كانت أكثر هدوءاً في المغرب وأكثر عاطفية، وأكثر سحرية وغموضاً، لأن المؤثرات الثقافية والاجتماعية والتاريخية لغرب القارة كان تأثيرها ببطء زمني شديد. عندما نأخذ دولة مثل المغرب مثلاً، ونحسب الدول التي مرت عليها تكاد تعد على أصابع اليد من الأغالبة إلى الأدارسة إلى السعديين، في الألفية السنة المقبلة أو الألف وخمسمئة سنة المقبلة وربما تزيد على سبع أو ثماني دول مرت على مجال كبير مثل المغرب، بينما إذا أخذت أي قطر عربي في المشرق وحسبت الدول التي مرت عليه قد لا يسعفك الوقت لذلك، فسرعة الحدث التاريخي في الشرق كانت أعلى بسبب سرعة المؤثرات وبسبب أنها أيضاً مدرج التاريخ ومدرج البشرية.
* هناك سبب آخر أن مصر تتصدر الدور، فإذا قست المشرق بالمغرب نجد أن مصر هي المتصدرة، فهل أصبحت هي الميزان لدى نظيرتها في المغرب؟
– مصر كانت دائماً منطقة تحوّل وتبادل ثقافي، وإذا تحدثنا عن المدرج والمصنع الحقيقي للثقافة الشرقية، هي بلاد الرافدين والجزيرة العربية، هذا هو المكان للسلالات المشرقية القديمة التي انبثقت منه الثقافة في أرض الرافدين والسومريين والبابليين والآشوريين إلى الشعوب السامية الأخرى كالكنعانيين.. مصر كانت دائماً منطقة تحوّل عندما هاجر إليها الهكسوس من الشرق، وهاجر إليها الإغريق من الشمال أو هاجر إليها الليبيون القدامى وهاجر إليها النوبيون من الجنوب وأيضاً الأحباش، كانت منطقة تبادل عرقي ثقافي واجتماعي، منطقة تحوّل، تستطيع أن تقول إنها كانت الموزّع للثقافات في كل المسارات، ولم يأت شيء إلى مصر وحافظ على طبيعته الأصلية، لا بد أن يتغيّر تغيراً كيميائياً جذرياً داخلياً.
فالصقالبة عندما أتوا إلى مصر لم يحتفظوا بصقلبتهم إلا بالاسم، وحتى العصر الهليني عندما جاء الإغريق والرومان إلى مصر اختلفوا تماماً عن بقية العالم الروماني القديم وأنتجوا الحضارة الهلينية المعروفة عندما جاء الهكسوس كقبائل رُحّل غازية، تغيروا تغيراً كيميائياً وتغيرت حتى وحدتهم الثقافية، وكذلك حصل مع النوبة وحصل مع الليبيين القدامى، فهي منطقة انصهار عميقة. ربما تتجلى عظمة ابن خلدون في هذه النقطة حين حافظ على تمايزه وأدرك خطورة الاتفاق عند المجتمع المصري.
* على ماذا يركز الأديب العربي حالياً.. هل يترك العنان لخياله أم يضيف أموراً وقيماً جديدة؟
– أعتقد أنه لا توجد هناك سلطة تملي الأديب أن يعتني بشيء من الأشياء، وإن كانت هناك سلطة أخلاقية تقول إن عليه أن يعتني بشؤونه.. هذا المبدأ المنطقي على المرء أن يعتني بشؤونه ويعتني بهموم مجتمعه وبمشكلات واقعه ومشكلات عصره، وإذا تناول القضايا التاريخية لا بأس، لكن يجب ألا تكون منبتّة الصلة بالواقع، فالواقع هو المستقبل وهو المادة الأساسية التي تمنح الأعمال أصالة وقابلية للفهم للآخر. فمن حيث المبدأ لا يمكن إملاء موضوع على كاتب، وإذا قمنا بهذا الشيء لا ننتج شيئاً ذا بال، ولكن إذا قام أديب بمعالجة هذه الأمور، فإنه يقدّم خدمة في الحقيقة لمعاصريه وللأجيال اللاحقة.
* حدثنا عن الكتابين باختصار؟
– كتاب «الردة»، رواية تتحدث عن مشكلات التديّن، فبعد انحسار عصر الصحوة في الجزيرة العربية أو في الشرق الأوسط بشكل عام.. برز هذا الجيل الثالث للعائلة الشنقيطية المهاجرة أو العائلة الموريتانية المهاجرة برزت لديه مشكلات المذهبية والتوجه الديني السياسي متلبس جميعاً بمشكلات الهوية الملازمة للهجرة دائماً، والأجيال التي تنتجها الأجيال المهاجرة، الرواد المهاجرون.. أيضاً هنالك مشكلات الوصم الاجتماعي تم تناولها في الرواية، فهي من هذه الناحية رواية متعددة العقد.. متعددة الموضوعات.. لا تحتفظ بوحدة الموضوع، وإنما تعالج سلسلة من القضايا وفق منظور وضعته من خلال حوار وبعض التقنيات الدرامية مستخدمة في الرواية بشكل عام.. هذا فيما يتعلق بكتاب «الردة».
أما رواية «تيرانجا» فهي رواية تتحدث عن التعايش داخل المجتمع متعدد الإثنيات والصراعات العرقية الموسمية التي يتم استغلالها من قبل سياسيين ومن قبل النافذين في المجتمع ومن قبل أصحاب المصالح عموماً. وكلتا الروايتين ركزتا على الأسس البسيطة التي يمكن التأسيس عليهما في مجال المشكل الديني أو المشكل العرقي الإثني، لأن هناك مسلّمات بسيطة يدركها العامة ويدركها الناس جميعاً يمكن التأسيس عليها فيما يتعلق بمفاهيم السماحة ومفاهيم التعايش ومفاهيم الحرية ومفاهيم قبول الآخر والانفتاح.. هذه المفاهيم بسيطة جداً تكاد تكون ساذجة، لكن التجارب المعقدة التي دخلت فيها الدول العربية والمجتمعات الحديثة أثبتت أن هذه التجارب البسيطة طفولية، التي يقفزها الذهن البشري عادة تصلح لأن تكون تأسيساً قوياً للتشارك وحياة سليمة مركبة متعددة ومتنوعة.
* هل لديك رسالة تحب أن توجهها لجمهور القراء؟
– لا توجد رسالة. وشكراً على هذه البادرة، وعلى هذا الحوار الجميل.. والحوار هو أحد القيم الأساسية الآخذة في الانحسار، خصوصاً في مجال الصحافة. فالمقابلات والحوارات الصحافية لم تعد تشكل مادة أساسية في الإصدارات، فعودة الحوار إلى الصحف والجرائد هي بادرة جيدة، لأن الحوار هو قيمة العصر، وهو القيمة التي أثبتت التجارب فاعليتها في إذابة المشكلات وفي استجلاء الحلول، فأنا أشكركم كثيراً على هذه السانحة وأتمنى لكم المزيد من التقدم.
جريدة البيان