نادرون هم الشعراء الذين يدفعون بقصائدهم إلى النشر، كما وفدت إليهم من ملائكة الشعر أو شياطين وادي عبقر، دون أي عناية أو تنقيح.
فالشعر في الأعم الأغلب يتنزل على أصحابه بمادته الخام التي تحتاج إلى صياغة وصقل، لكي تصبح قابلة للتداول والاستعمال. وإذا كان ثمة من فوارق أسلوبية ملحوظة بين من يسمون بشعراء الطبع العفوي، وبين شعراء الصنعة والتأنق، فإن الأمر يتعلق بتباين النسب والمقادير، لا بالمبدأ نفسه. فأن يكون بين الشعراء الأقدمين من بالغ إلى حد الإفراط في صقل قصيدته وتخليصها من الزوائد، إلى حد أنه كان يستغرق عاماً كاملاً في إنجاز «منحوتته الشعرية»، كما هو حال زهير بن أبي سلمى في حولياته، لا يعني بأي حال بأن شعراء الجاهلية الأقل اعتناء بالصنيع، لم يتكبدوا عناء الحذف والإضافة والتعديل، قبل أن تخرج قصائدهم في الصيغة التي وصلتنا بها. وأن يُنسب إلى الأخطل، أو إلى ابنه مالك في بعض الروايات، قوله في معرض المقارنة بين الفرزدق وجرير، بأن الأول ينحت من صخر والثاني يغرف من بحر، لا يجب أن يقودنا إلى الاستنتاج بأن انسيابية شعر جرير لم تكن لتتحقق لو لم يمتلك الشاعر قدراً غير قليل من البراعة في محو الصنعة وتمويهها. وما ينطبق على جرير، ينسحب في الآن ذاته على شعراء الانسياب التلقائي، من أمثال جميل بن معمر وابن الرومي وأبي فراس الحمداني وبدر شاكر السياب وآخرين.
وإذا كان الشعر يصدر من مناطق الأعماق المتصلة باللاوعي ذي الطبيعة الليلية، إلا أن خضوعه اللاحق لرقابة الوعي «النهاري» هو الممر الإلزامي الذي يجب أن يقطعه للخروج إلى دائرة النشر والتعميم، حيث يفلت العمل الإبداعي من قبضة مؤلفه، ويواجه بلا ظهير أمزجة القراء القساة، أو محكمة الزمن الذي لا يرحم. وكثيراً ما تفضي خشية المبدعين المفرطة من خروج النصوص التي ينجزونها عن سيطرتهم، إلى نوع من الفوبيا المرضية التي تجعلهم في حالة عدم رضا متواصلة عن هذه النصوص. وهو ما يفسر لجوء البعض إلى حذف أعمالهم الأولى التي لا يرون فيها لدى تقدمهم في العمر والتجربة، سوى تمارين متعثرة على الكتابة، كما يفسر لجوء البعض الآخر إلى التعامل مع الأعمال التي يصدرونها، بوصفها نصوصاً ناقصة تظل أبداً قيد الإنجاز. وهم يصرون تبعاً لذلك على إخضاع أعمالهم الإبداعية المنشورة إلى التعديل والإضافة والحذف، طالبين من الناشر أن يصدر غلافات الطبعات اللاحقة لمجموعاتهم الشعرية، بعبارة «طبعة جديدة ومنقحة». كأنهم بذلك يردون، عن عمد أو غير عمد، على نظرية «موت المؤلف»، ويؤكدون أنهم قادرون على الإمساك بزمام نصوصهم، ما دام فيهم نفَس يتردد، أو عرق ينبض.
معايير نسبية
ليس ثمة في الشعر، من جهة ثانية، حقائق راسخة ويقينية، كما أن المعايير التي يقاس بها تظل، على وجاهتها وعمقها، نسبية وحمالة أوجه وخاضعة للتبديل. فهي في نهاية الأمر متصلة بذائقة المرسل إليه وزاوية الرؤية وطريقة التلقي، أكثر من اتصالها بالحسابات العقلية المجردة. ومن يطلع على مسودات الشعراء، لا بد أن يلحظ النماذج التمهيدية والتعديلات الكثيرة التي يجريها الشاعر على نصوصه، قبل أن يرسو بها على بر أسلوبي. أما حجم تلك النماذج، التي تشبه التخطيطات الأولية للوحات الرسامين، فهو لا يخضع فقط للتفاوت القائم بين شعراء «الطبع» وشعراء «الصنعة»، بل هو يتفاوت لدى الشاعر نفسه أيضاً. إذ ثمة قصائد تتنزل عليه دفعة واحدة، وبصيغتها الكاملة التي لا تحتاج إلى أي تعديل يُذكر، في حين أن قصائد أخرى تهبط على شكل شظايا متناثرة، يتطلب سبكها الكثير من الاشتغال والتعديل والجهد المضني. وسينعكس هذا التفاوت في أحجام الصيغ التجريبية الأولى لقصائد الشعراء، بحيث إن بعض النصوص الجاهزة للنشر توشك أن تتطابق مع مسوداتها، في حين أن نصوصاً قصيرة أخرى، تطلب إنجازها استهلاك عشرات الصفحات من المواد الأولية وأنصاف الجُمل والعبارات المتلعثمة.
ولعل الطبيعة المربكة للمسودات، هي التي تقف وراء ما يبديه الكثير من الشعراء من حرص شديد على إخفائها وإبقائها بعيدة عن أعين الآخرين، خصوصاً الفضوليين منهم. فانكشاف هذه المسودات هو لدى البعض نوع من الانتهاك الفج لأكثر وجوه العملية الإبداعية حميمية وغموضاً. كأن المسودة من هذه الزاوية هي المعادل الرمزي للجسد العاري الذي لم تتح له الفرصة بعد للاستتار خلف ثياب الشكل النهائي، وبالتالي يصبح اختلاس النظر إلى مسودات الشاعر أشبه برؤية الشاعر نفسه في حالة العري. ولعل عبارة «ثياب العري» التي لا ينفك عن استخدامها الكثير من اللبنانيين للدلالة على الثياب التي تستخدم لستر الجسد لا أكثر، والتي لا يليق بالمرء أن يستقبل بها الضيوف «الرسميين»، أو أن يرتديها خارج حدود منزله، هي التعبير الأبلغ عن المفارقة التي تجعل من بعض ما نرتديه شكلاً من أشكال العري الرمزي أو الجزئي. فهذا النوع من الثياب هو أشبه بالمسودات التي يأنف الشعراء من إشهارها على الملأ، لأنها تحتاج إلى التعديلات والرتوش المناسبة، في حال لم يتم حذفها بالكامل.
المطبخ السري
بما أن أجمل ما في الكتابة الشعرية والإبداعية هو طبيعتها الملغزة والعصية على الانكشاف، فإن معظم الشعراء والمبدعين يعملون على حماية السر الذي يقف وراء كتابتهم من الافتضاح. فالشعر بوصفه أحد أكثر الفنون صلة بالجمال، لا بد له أن يكون عرضة دائمة لمطاردة الغاوين و«باباراتزي» التلصص الباحثين عن مكونات العملية الشعرية وتفاصيلها الغامضة. وهو ما يعتبره الشعراء نوعاً من الاعتداء السافر على خصوصيتهم الحميمة، ومحاولة غير مشروعة لإماطة اللثام عن «المطبخ» السري للكتابة الإبداعية. والواقع أن استخدام المفردات المتصلة بالطعام للدلالة على الكتابة، لا يضير هذه الأخيرة في شيء، ليس فقط لأن فن الطعام هو من بين أكثر الفنون دلالة على ثقافة الشعوب وهوياتها الوطنية، بل لأن ثمة تواشجاً من نوع ما، بين غذاء الجسد وغذاء الروح، حيث لكل منهما مطبخه ومقاديره وخلطته الخاصة. وليس الشاعر وحده هو من يفضل تقديم نصه الإبداعي ناجزاً من خلال المجلة أو الكتاب، بل إن الأمر ينطبق على الطهاة الذين يؤثرون تقديم وجباتهم جاهزة على موائد الطعام، ولا يجدون ما يسوغ للضيوف الدخول إلى مطابخهم، والوقوف على مراحل الطبخ وطريقته وتفاصيله. لا بل إن دخول هؤلاء إلى المطابخ، قد يفسد عليهم متعة التلذذ، لا بالوجبات الشهية الجاهزة وحدها، بل بجمال الأطباق وأناقة الأشكال وتناسق المائدة بوجه عام. وهو ما يشير إليه جورج أورويل في كتابه «متنقلاً بين باريس ولندن»، إذ يقول بأن أولئك الذين يجلسون بكامل حماسهم إلى الموائد الفخمة، كانوا سيفقدون شهيتهم المفرطة للطعام بكل تأكيد، لو قدر لهم أن يقفوا بأنفسهم على طريقة تحضيره، حتى لو تعلق الأمر بمطابخ الفنادق من ذوات النجوم الخمس.
بعد كل ما تَقدم لا بد لنا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: ما الذي ينبغي أن نفعله بالمسودات غير الناجزة للشعراء الراحلين؟ وهل ينبغي، استتباعاً، أن يعمد المعنيون بالأمر إلى نشر كل ما تركه الشاعر من مسودات غير مكتملة وقصاصات غير ناجزة، أم أن كل تلك المحاولات البتراء يجب أن تظل في الأدراج؟
إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ليست بالأمر اليسير بالطبع، كما أن أي خيار من الخيارين لا يلقى إجماع القراء وأهل الاختصاص والقيمين على تراث الشعراء والمبدعين. ولكنني أميل على المستوى الشخصي إلى اعتبار المسودات والقصاصات المتفرقة التي يتركها الشعراء على الورق، نوعاً من «الخرطشات» البحتة والمقاطع التجريبية التي أخذ منها هؤلاء ما يريدون أن يأخذوه، ثم تركوا الباقي في الأدراج لهشاشته وانتفاء قيمته الفعلية. والأرجح أن الشعراء الذين يتولون عامدين تمزيق مسوداتهم، سواء تلك التي تم «تبييضها» لاحقاً أو تلك التي ظلت عصية على الاكتمال، إنما أرادوا أن يحسموا بأنفسهم هذه الإشكالية، لا أن يتركوها رهناً لأمزجة البعض، ولمصالح البعض الآخر. وقد تكون الإجابة المثلى عن هذه الإشكالية هي بيد الشاعر نفسه، الذي ينبغي أن تُحترم وصيته الشفهية أو المكتوبة، في حال وجدت، بشأن ما هو قابل للنشر بعد غيابه الجسدي، وما هو غير قابل لذلك. وقد يكون السجال الذي رافق صدور عمل محمود درويش الأخير «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، الصادر بعيْد رحيله، هو الشاهد الملموس على تلك الإشكالية. صحيح أن بعض قصائد المجموعة كان جاهزاً للنشر، أو هو نشر بالفعل في دوريات ثقافية مختلفة، ولكن البعض الآخر كان لا يزال في طوره الجنيني، بحيث بدا أشبه بأرخبيل متناثر من الجمل والعبارات، التي ظلت تحتاج إلى لمسات الشاعر الأخيرة في التنقيح والربط بين الفقرات وتدارك الاختلالات الوزنية.
على أن لدى البشر، من جهة ثانية، نزوعاً واضحاً إلى أسطرة شعرائهم ومبدعيهم الكبار، وتحويلهم إلى نماذج عليا وأيقونات بحتة. وتبعاً لذلك فهم يرغبون في الاحتفاظ بكل نأمة صدرت عن هؤلاء، وكل غرض اقتنوه، وكل قصاصة تركوها خلفهم. وفي هذه الحالة فإن الأجدى أن تُعامل مسوداتهم معاملة هذه المقتنيات، ويتم الاحتفاظ بها في منزل الشاعر، أو في متحف خاص به، بوصفها جزءاً من تراثه، أو شاهداً ملموساً على طريقته في الكتابة والتأليف. والشاهد الأبلغ على ذلك هو شاعر الرمزية الكبير بول فاليري، الذي اختار الفرنسيون تكريمه عبر تحويل منزله في مدينة سيت إلى متحف متنوع لكل ما تركه خلفه من ودائع ومقتنيات، بما فيها مسوداته الغزيرة التي لم تكن تكشف عن الآلية المعقدة لإبداعه الشخصي فحسب، بل عن طريقة الرمزيين الشاقة في الكتابة، وعن مواءمتهم الصعبة بين الجوهر الجمالي للشعر، وبين النواة الأخيرة لصخرة المعنى، التي يجهَد النحاتون في تخليصها من الزوائد.
جريدة الشرق الاوسط