في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1922، فقدت فرنسا مارسيل بروست مؤلف «البحث عن الوقت الضائع»، أضخم عمل روائي في آداب العالم، وأشهر أدباء فرنسا على الإطلاق كثرتهم وشهرتهم. المثير أن حياة بروست القصيرة كانت نوعاً من الدراميات البشرية، التي حاول إعادة كتابتها كتّاب كثيرون حول العالم، أفضلهم، في اعتقادي، النمساوي ستيفان زفايغ، الذي هو من أفضل كتّاب السِيَر، في صورة خاصة، إضافة إلى إبداعاته في الرواية والسفر والمذكرات والتاريخ. وقد كانت حياة زفايغ ذروة الدراما هو أيضاً، إذ عاش سنوات الحرب العالمية الثانية تائهاً في أوروبا، إلى أن انتحر هو وزوجته في البرازيل احتجاجاً على فظاعة البشر (60 عاماً).
الأهمية الأخرى والقصوى في حياة بروست كانت المدرسىة التي تركها خلفه: في أميركا، في بريطانيا، في أميركا اللاتينية. ليس من كاتب كبير في القرن الماضي لا ترى فيه أثراً واضحاً لأسلوب بروست في جمع التفاصيل، ومن ثم في نثرها. ويتراءى لي – على سبيل المثال – أنه عندما طلب ناشر غابرييل غارسيا ماركيز منه أن يختصر روايته «مائة عام من العزلة» من 800 إلى 400 صفحة، فإن ماركيز كان في الحجم الأول يقلد بروست.
أعطي مارسيل بروست الكثير وحرم من الكثير.
أحب بلاده، ولكن نادراً ما أمكنه أن يراها، حتى الربيع، فإن حبوب اللقاح الدقيقة الرائعة، وقسوة الطبيعة وخصوبتها كانت تؤثر بشكل مؤلم جداً على جسمه الحساس.
أحب الزهور بشغف وحماس، ولكنه لا يستطيع الاقتراب منها، وحتى عندما يحمل صديق له إلى غرفته، وردة القرنفل، يضطر لإبعادها طالباً منه رميها.
كان أحياناً يذهب بالسيارة، أو في عربة مغلقة، ليرى من خلف النوافذ الزجاجية الألوان والأزهارالحيّة التي يحبّها، ويأخذ معه دائماً كتباً، وكتباً وأكثر، ليقرأ عن السفر وعن البلدان التي يصعب الوصول إليها. وبمجرد وصوله إلى البندقية، شعر بالتعب. وكل رحلة من الرحلات تسبّبت له في خسائر فادحة من قوَّته، وفي النهاية استسلم وعاش في باريس وحدها.
جعله المرض يزداد دقّةً في إدراكه لكل شيء، كانعكاس الأصوات في المحادثة، والزينة في شعر المرأة، والطريقة التي يجلس بها شخصٌ ما أمام الطاولة أو ينهض من ورائها، وكل زخارف الحياة الاجتماعية، تثبت نفسها بقوة في ذاكرته.
تلتقط عيناه اللتان تراقبان باستمرار أدق التفاصيل، كل القيود والاختلافات والتعرجات والترددات في أي محادثة، وكل اهتزاز يصل إلى أذنيه. لذلك، فهو قادر في روايته المؤلفة من مائة وخمسين صفحة، أن يتذكر محادثة «الكونت نوربوا» بلا تردد، فعيناه مستيقظتان ونشيطتان لتعويض ضعفه الجسديّ.
في الأصل كان والداه ينويان أن يكرّس نفسه للدراسة والدبلوماسية، لكن كل ما حاولا فعله كانت تعيقه حالته الصحيّة السيئة. ولذا، خفف الوالدان الضغط عليه، خصوصاً أنهما كانا ثريين.
إلى اللقاء…
مائة عام من الدهشة – بقلم سمير عطا الله