(خاص موقع العويس الثقافي)
هذا الفنان وكأنه تراجيديا إغريقية.. أستشعر المأساة قوية في حياته. هكذا حدثت نفسي بينما كنت أقرأ كتاب «حسن شريف.. محطات وتجارب وشهادات» للإعلامية والكاتبة القصصية السورية رشا المالح، والذي صدر عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية حديثاً، وأقيمت عنه ندوة ثرية مؤخراً عبر منصة زووم، ضمت نخبة من الفنانين التشكيليين زملاء الفنان الإماراتي الراحل حسن شريف، مثل الفنان محمود الرمحي الذي أدار الندوة باقتدار ومحبة، والفنان محمد فهمي، والفنانة د. نجاة مكي، الفنان إحسان الخطيب والشاعر حسين درويش، ومن تلاميذه وحواريه الفنان خليل عبد الواحد، والفنان وليد الزيادي، حيث تناولت الحلقة جوانب مختلفة من حياة الراحل حسن شريف وألقت مزيداً من الضوء على عالمه الفني الخاص.
دون كيشوط آخر
كلمة تراجيديا في أبسط تعريفاتها تعني أن شخصية عظيمة تعيش حياة معقدة، تمر بظروف تعيسة، أو تمر بتغيرات متناقضة سواء من الأحسن للأسوأ أو العكس، فلماذا إذن اعتبرت شخصية حسن شريف تراجيدية؟ انتابني هذا الشعور منذ مشاهدتي للفيلم الوثائقي عنه «آلات حادة» – بتوقيع المخرجة نجوم الغانم – إذ كانت أفكار الفنان حـول مفهـوم الاسـتهلاك والفـن – في المنظومـة الاجتماعيــة والهويــة الوطنيــة – تكشف بوضوح أنه يسير عكس التيار على الأقل في بداياته. لكن أفكاره، أيضاً، وصمته الطويل، كذلك إيماءاته الجسدية، وحديث عيونه كان يشي بمأساته في وحدته، وهيئة بيته، وانغماسه في تجميع المخلفات ليصنع منها عملاً مفاهيمياً، وكأنه وحده في حرب مع الرأسمالية، مما ذكرني بشخصية دون كيشوط – للروائى الإسباني سرفانتس – التي كانت تحارب طواحين الهواء.
صحيح أن حسن شريف ترك وراءه إرثاً فنياً مهماً تقتنيه العديد من دول العالم الآن، لكنه لما يقرب من عقد من الزمان كان في تقديري كمن يحارب طواحين الهواء. تأكد هذ الشعور بعد قراءتي لكتاب رشا المالح عنه. فهذا الفنان الإماراتي بدأ حياته العملية والفنية من فن الكاريكاتير، كان يُوظف السخرية في أعماله على مدار نحو سبع سنوات في العديد من المجلات. كان ناجحاً جداً، لدرجة أن أخيه عندما بدأ ممارسة الفن تأثر به وظل يرتدي عباءته لفترة إلي أن تخلص منها – وفق بعض المراجع كما عند الفنان الراحل عبد الكريم السيد – وكذلك آخرين.
بعد هذه السنوات الناجحة قرر حسن شريف دراسة الفن التشكيلي في لندن. هناك مارس التمرد على جميع المذاهب الفنية. رفضها جميعاً، وأخذ يبحث عن أسلوبه الخاص، ومارس فن الأداء طويلاً تعبيراً عن أفكاره التشكيلية، وذلك ليُعوض عن اللغة الإنجليزية لم يكن يُجيدها، وكانت ظروفه المعيشية غير جيدة، وكان يعود خلال الإجازات إلى الوطن لمواصلة عمله هناك.
عن السنوات الصعبة
ربما كان يمكنه البقاء طويلاً أو للأبد في الخارج، لكنه بمجرد أن أنهى دراسته قرر العودة لوطنه عام 1984. ليبدأٔ رحلــة صعبـة وشـائكة نتيجـة تبنيـه للفـن المفاهيمـي الـذي لـم يكــن معروفــاً في المنطقــة. إذن، لم يبتعد فقط عن فن الكاريكاتير الذي كان يُستقبل بترحاب من القراء والجمهور، لكنه أصر على مواصلة طريقه بالفن المفاهيمي الذي كانت بعض الجماهير تصفه بالشعوذة، وتُطلق أوصافاً صعبة وغير لائقة على الفنان الراحل.
طبعاً هناك إشارة ضمنية بالكتاب إلى الظروف الصعبة – أو القاسية – في طفولة حسن شريف التي تركت آثارها النفسية السيئة عليه وفق تصريح أستاذته في لندن. لكني أعتقد أن هناك أياماً صعبة إضافية كانت تنتظره في رحلة اختلافه، وإبداعه، على الأخص طوال الفترة من العام 1984 إلى العام 1993من القرن المنصرم.
غموض وتساؤلات
مع ذلك، تظل هناك مناطق غامضة في حياته. لكن، المدهش بالنسبة لي، أنه رغم الدور المحوري الذي لعبه حسن شريف في الفــن بالإمــارات، رغم مناداته بأهمية الثقيــف منذ عاد من دراسته في لندن، كــي يتجــاوب الجمهــور مــع التغيـير الحادث بالفنون، وإيمانه بأهمية نشر وعــى الفنانــين وتفاعله مع الجمهور من أجل إعادة اكتشــاف جمهورهــم باســتمرار. كذلك، رغم الجمعيات التي شارك فيها، والأصدقاء من الفنانين. لكن اللافت أنه لم ينجح في اجتذاب الجمهور إليه، وجميع أحاديثه التي سمعتها سواء بفيلم نجوم الغانم، أو في تقديم الكاتبة رشا المالح له، أو حتى في بعض تصريحاته هو نفسه – وكذلك شهادات آخرين – نجده يُشير إلى عدم الاعتراف بفنه، ومعاناته طويلاً ليس أقل من عقد من الزمان إلى أن شاركت أعماله في بينالي الشارقة منذ العام 1993.
إذن، بقيت هناك فجوة بينه وبين الجمهور امتدت حتـى التسـعينيات، حيـث بـدأ يعـرف هـذا الفـن نسـبياً مـن خـلال المعـارض العالميـة والبيناليـات في المنطقـة، التــي ســلطت مزيــداً مــن الضــوء علــى الفنــون البصريــة المعــاصرة.
أثناء مداخلتي بتلك الندوة التي نظمتها مؤسسة سلطان العويس عبرتُ عن حيرتي أمام تلك القطيعة بينه وبين الجمهور، هل محاولته في التثقيف لم تكن ناجحة؟ هل زملاءه لم يدعموه، أو لم يؤمنوا بفنه آنذاك؟ كيف حدثت تلك الفجوة بينما الفنان الراحل كان يدير استوديو «المرسم الحر» الذي اجتذب إليه العديد من عشاق الفن التشكيلي، وكلمة الفنان خليل عبد الواحد بالندوة تُؤكد ذلك، وتُؤشر بقوة لأهمية الدور الذي لعبه الفنان الراحل في تشكيل موهبته – مع كثيرين من زملائه – وإتاحة الفرصة لانطلاقها؟!
كنت أتساءل لأن دور الفنان حسن شريف في التنظير والتثقيف قد يماثله دور الناقد أو الكاتب عندما يحاول دعم أحد الفنون. بصراحة كنت أتساءل لأفهم: هل الكتابة عن الفنون يُمكن أن تكون مؤثرة وفاعلة،؟ هل يمكن أن تجذب القارئ أو الجمهور إلى عالم الفنون؟ أم أنه لابد من وجود دعم مباشر من الدولة؟
الحقيقة أن عدداً من الفنانين المشاركين بالندوة كل أضاء جانباً من الصورة – بإضافات ثرية يمكن مراجعتها وتأملها من خلال الرابط بنهاية المقال – إذ تحدث الفنان محمود الرمحي عن فترة الثمانينات والموقع الجغرافي والثورات التي حدثت آنذاك وأثرها على حركة الفنون. كذلك تحدث الفنان محمد فهمي عن قسوة الجمهور آنذاك، بينما أشار الفنان إحسان الطيب إلي الحروب التي كانت تمر بها المنطقة، والظروف العصيبة ومنها حرب صدام وديكتاتوريته، فبينما كان الجميع منشغلاً بهموم الوطن كان حسن شريف منشغلاً بالفن ومدارسه الحديثة.
حماية التراث ورعاية المستقبل
بقي أمران، أن نوجه التحية والتقدير للكاتبة رشا المالح، على قدرتها على جميع الفيديوهات التي تم تصويرها مع الفنان الراحل وترجمتها، حتى التي تمت بالخارج. كذلك أمانتها في التوثيق العلمي الدقيق.. لدرجة إن بعض الفيديوهات قامت بتسجيل زمنها بالدقيقة والثانية.. واختارت منها فقط الجملة التي ترى فيها أهمية. كما أنني استمتعت بسلاسة اللغة وبساطتها، وفي نفس الوقت وضوح الأفكار. والكتاب يستحق مقالاً منفرداً، لأنه سيكون أحد أهم المراجع المستقبلية لأي باحث ليس فقط عن حسن شريف ولكن عموماً في حركة الفن التشكيلي بالإمارات والخليج.
الأمر الثاني؛ يتعلق بدور مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في التوثيق للشخصيات الإماراتية التي أثرت مجتمعها. من هنا، أُحيي مؤسسة العويس على دورها الفاعل شديد الأهمية، سواء في الندوات الثقافية والفنية، لقدرتها على إثراء المشهد الفني المحلي والعالمي من خلال تفعيل الحوار بين المتخصصين بالفنون على اختلاف أشكالها وجمهورهم الفني.
وتحية خاصة على دورها في إصدار الكتب تحديداً مجموعة «أعلام من الإمارات».. لماذا؟ لأن المجتمع الذي لا يعرف تاريخه لا يستطيع أن يصنع مستقبله، والفنان الذي لا يعرف تاريخ فنه لا يستطيع أن يضيف إليه، كذلك الناقد الذي لا يعرف تاريخ الفن موضوع نقده لا يستطيع أن يضع العمل الفني الذي ينقده في موضعه من تاريخ هذا الفن.
الجميل، والمدهش في الأمر، أن مؤسسة سلطان العويس تحافظ على التراث وتقوم بحمايته، وفي نفس الوقت تشجع على الإبداع فتقوم برعاية المستقبل، والجانبين يكملان بعضهما.. لأن إبداع اليوم هو تراث المستقبل.. فتحية تقدير لمؤسسة سلطان العويس، ولدورها الثقافي المهم.
*ناقدة مصرية