رحم الله الإعلامي العربي المصري الأصيل حمدي قنديل، فقد كان مثالاً للإعلامي الشريف المدافع عن رأيه، المحافظ على نزاهة قلمه، العربي حتى النخاع، الذي عاش مرحلة من أهم مراحل تاريخ الأمة العربية الحديث، كان شاهداً على معظم أحداثها من موقعه صحافياً ومذيعاً تلفزيونياً، وصاحب رأي وموقف لم يحد عنهما رغم كل الظروف التي مر بها. وقد سجل شهادته في مذكراته التي أطلق عليها «عشت مرتين».
وسواء اتفقنا أو اختلفنا على آراء ومواقف حمدي قنديل، إلا أننا لا يمكن إلا أن نحترم هذه الآراء التي دفع ثمنها، موقوفاً عن الكتابة حيناً، وعن الظهور على شاشة التلفزيون حيناً، ووقف البرامج التي كان يقدمها أحياناً، وهذا أسوأ ما يمكن أن يتعرض له أي إعلامي شريف، أما ما عداها من المحاربة في الرزق، فيهون على أصحاب المبادئ لأنهم يؤمنون بأن الرزق بيد الخالق لا الخلق.
من أكثر الفصول التي استهوتني في الكتاب، الفصل الذي تحدث فيه قنديل عن قصة إطلاق أول قمر صناعي عربي، حيث يعود تاريخ تأسيس المنظمة العربية للاتصالات الفضائية (عربسات) إلى أواخر الستينيات، عام 1967 على وجه التحديد، عندما وضع وزراء الإعلام في الدول العربية سلسلة من المبادئ المتعلقة بشبكة الأقمار الصناعية لإيجاد تكامل للأنشطة الاجتماعية والثقافية بين دول جامعة الدول العربية، ثم تأسس اتحاد إذاعات الدول العربية عام 1969، فتحمس لإطلاق قمر صناعي عربي يخدم الأهداف العربية.
وكعادة العرب، تشكلت اللجان وتوالت الاجتماعات ورُفعِت التوصيات، ليتم إطلاق أول قمر صناعي عربي، هو «عربسات A1» عام 1985.
الأمر الذي استهواني في الموضوع هو أنه عندما تم التفكير في إطلاق قمر صناعي عربي، كنت ما أزال طالباً في المرحلة الابتدائية، وعندما تم إطلاق «عربساتA1» كنت قد أنهيت دراستي الجامعية وانخرطت في العمل الإعلامي وأصبحت نائباً لمدير عام تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من أبوظبي، ومن موقعي هذا شاركت في الاجتماعات التمهيدية لإطلاق القمر، والتي جرت في مقر اتحاد إذاعات الدول العربية الذي كان في تونس وقتها، وفي لجان التخطيط التي أعدت لاستخدامه، وكنت عضواً في اللجنة التأسيسية لأول مركز لتجميع الأخبار، الذي اقترحت الجزائر إقامته في مدينة «بوزريعة» المرتفعة عن سطح البحر، استعداداً للاستفادة من القمر.
لقد تحول القمر الصناعي العربي من مشروع إعلامي ثقافي تعليمي تنموي، إلى مشروع سياسي، ولهذا تأخر كثيراً نتيجة الخلافات السياسية العربية، وهكذا هي السياسة، تفسد كل شيء عندما تدخله، وتؤخره.
عام 2009 قرر «ملتقى الإعلاميين الشباب العربي» في عمّان منح قنديل جائزة أبرز شخصية إعلامية عربية رائدة. وفي حفل افتتاح الملتقى الثاني دُعي قنديل لإلقاء كلمة.
وقد أدهشه الحشد الكبير من طلاب الإعلام المقبلين على ممارسة المهنة، فوجدها فرصة ليرسل رسائل إلى الإعلاميين الجدد وقتها، وقد لخص هذه الرسائل في 22 نصيحة، كان منها: (أوصيكم بألا تعملوا بالإعلام إلا إذا كنتم تحبونه، فإن لم تكونوا كذلك حاولوا أن تحبوه، فإذا أعيتكم الحيلة ابحثوا عن مهنة أخرى.
أوصيكم إذا خالفتم أحدًا الرأي أن تتفهموا دوافعه، وإن خاصمتم خاصموا بنزاهة، وإن انتقدتم انتقدوا بعفة. أوصيكم إن أخطأتم بأن تعتذروا، وأن تصححوا الخطأ بتبيان الحقيقة، ذلك ما تنص عليه القوانين ومواثيق الشرف، وما يجب أن تمليه عليكم قبل ذلك ضمائركم).
وبعد النصائح القيمة التي قدمها قنديل للإعلاميين الجدد، ختم كلمته بعبارة جمع فيها بين الفخر والمرارة قائلاً: «في النهاية أعرف أنكم من الذكاء بحيث إنكم لن تأخذوا بهذا النُّصْحِ كله. ستأخذون منه بمقدار وإلا أصبح حالكم كحالي، أكتب في الصحف مقالات، وأتجول على المنتديات، وأقحم نفسي على مؤتمرات لأسدي للناس النصائح».
لعل من ثمرات المعارك التي خاضها قنديل في حياته الحافلة بالشد والجذب، تلك القصيدة التي أهداه إياها الشاعر فاروق جويدة، بعد إيقاف برامجه أكثر من مرة في أكثر من قناة تلفزيونية، وسجلها قنديل بصوته، وهي القصيدة التي بدأها جويدة بهذه الأبيات: «لم يبقَ لي غيرُ القلم.. هدأ الصهيلُ وسافرَ الفرسانُ.. واستلقتْ على القاعِ القِمم». وأنهاها بهذا البيت: «فالأرضُ يُحييها ربيعٌ قادمٌ.. وضميرُ هذا الكونِ يسكُنُ في قلم».
بوركت كل الأقلام الشريفة، فهي الوحيدة الخالدة، ليس بعد أن تنتهي محطات العمل فقط، وإنما بعد أن تنتهي محطات العمر أيضاً.
جريدة البيان