لماذا لا يقبل القارئ الأجنبي على الرواية العربية؟ – بقلم أمين الزاوي

امين الزاوي

لقد صنع الوضع الإعلامي والجامعي شهرة “نجوم الدشرة” و”نجوم العزبة” و”نجوم القبيلة” و”نجوم طلابهم”

لماذا لا يُقْبِلُ القارئ في العالم الأوروبي والأميركي على قراءة روايات كتّاب العالم العربي “المشهورين”، أو أولئك الذين صنّفوا أنفسهم “نجوماً” “كتّاباً عالميين”، بالطريقة ذاتها التي يُقْبِل بها على قراءة أدباء اللغات الأخرى، بشهية وإعجاب؟ أسأل لماذا ينفر، أو في أقلّ تقدير لا يتحمّس القارئ في العالم لقراءة الروايات العربية أو روايات شمال أفريقيا بالعربية حين تُتَرجم إلى لغات كبيرة كالإنجليزية أو الألمانية أو الإسبانية أو الإيطالية؟ هذا السؤال لطالما طرحتُه على نفسي.

بالتأكيد، هناك خلل ما في أدبنا، هل هو خلل في الكتابة؟ هل هو خلل في الكاتب؟ أم خلل في مفهوم الكتابة عند العرب المعاصرين؟ هل هو خلل في حضارة الكِتَاب؟ أم إنه خلل في الوضع السياسي الثقافي القائم في البلدان العربية والمغاربية من دون استثناء؟

أولاً، هل الكتّاب الذين نرسل نصوصهم الروائية عبر الترجمة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية هم بالفعل الكتّاب الذين تتوافر لديهم “العالمية”، بمفهومَيْها الشعبي والنخبوي، وهل بالفعل هذه النصوص التي نرسلها في الترجمة لتمثيل الرواية بالعربية سواء في المشرق أو شمال أفريقيا هي الروايات الأكثر مقروئية؟ ومَن هو القارئ الذي يُعتمد عليه في هذا التصنيف؟

حين نعاين واقع المقروئية في العالم العربي وشمال أفريقيا، على ضعفها، نقف أمام عقبة أولى وهي غياب إحصاءات دقيقة في مسألتَيْ النشر والتوزيع. فالناشر العربي الذي هو عادة الطابع والموزّع لا يعطي أرقاماً صحيحة، إمّا خوفاً من الضرائب أو خوفاً من حقوق المؤلف أو إخفاء لفضيحة كاتبه.

أضف إلى ذلك أننا لا نملك تصوّراً حقيقياً عن طبيعة قارئ الرواية بالعربية، في العالم العربي وشمال أفريقيا. فليست هناك مختبرات بحث في سوسيولوجيا القراءة في جامعاتنا. وليست هناك دراسات ميدانية محترمة عن القراءة والقارئ، لا من حيث الجنس ولا العمر ولا الجغرافيا ولا المستوى الثقافي والتعليمي. وهذا ما لا يسمح بتقديم مؤشر صحيح عن طبيعة مفهوم “رغبة القارئ”؟ هل هي رغبة “القراءة السياسية” أم رغبة “القراءة الثقافية” أم رغبة “قراءة المراهقات العاطفية”؟

وفي ظل غياب هذه المعطيات، يركّز الإعلام على مجموعة من الروائيين من خلال تسليط الأضواء الدعائية عليهم، ما يفسد الوضع الصحي الأدبي ويخلق فيه كثيراً من النتوءات والفساد، ويصنع مغالطات في سلّم القيم الأدبية. وهو ما يُحدث رفضاً لهذه النصوص ونفوراً منها حين ترحل إلى الآخر عبر الترجمة.

لقد صنع الوضع الإعلامي، والجامعي أحياناً، من خلال الرسائل الجامعية المتمركزة حول بعض الأسماء دون غيرها، ما جعل بعض الروائيين يعيشون على وهم “حمل كاذب” أو شهرة “فارغة”، شهرة نجوم “الدشرة” أو “نجوم العزبة” أو “نجوم القبيلة” أو “نجوم طلابهم”. هذه الشهرة الزائفة تمتحنها مباشرة الكيفية التي تُستقبل بها ترجمة نصوصهم إلى لغات أجنبية. فحين تُتَرجم رواياتهم وتُنشر في البلدان الأوروبية، تكتشف المستوى البائس أو في أحسن الظروف “المستوى العادي” لهذه النصوص التي لا تثير أي فضول لدى القارئ في اللغات الأجنبية. ويستغرب القارئ الأجنبي كيف لقارئ سويّ أن يحبّ مثل هذه النصوص ويصنّفها ضمن كتابات “النجوم”.

والترجمة نفسها، هي عملية مشبوهة، إذ لا تتحقّق هذه الترجمات عادة إلّا بتدخّل “جهات” معينة نافذة في المؤسسات الرسمية العربية والمغاربية، مؤسسات هي مَن تتولّى دفع حقوق الترجمة، ما يجعل مصير هذه الرواية “المختارة” المترجمة هو “المخازن” في انتظار أن تذهب إلى “الطحن” الورقي.

لا تشكّل الروايات العربية المترجمة أي حدث في “المكتبات” (مكتبات البيع) التي هي مقياس حقيقي لرواج رواية، وهي مقياس رئيس وأول لصناعة “نجم” روائي، مع الإشارة إلى أن كثيراً منها نُشر في دور نشر فرنسية كبيرة، وفي أحسن الأحوال تنتقل هذه الروايات العربية المترجمة لتحطّ ثانية بين أيدي طلاب أقسام “اللغة العربية” في الجامعات الأوروبية، وهي أقسام غالبية طلابها من العرب أو من شمال أفريقيا. بهذا المعنى، فـ”زيتنا في دقيقنا”. لذا، نجد روايات الكتّاب العرب تعود إلى العرب في الجهة الأخرى من العالم.

روائيان وحيدان يكتبان بالعربية، واحد من المغرب وآخر من مصر استطاعا أن يحقّقا حضوراً متميّزاً وصلباً في أوساط القرّاء الأوروبيين والأميركيين بعد ترجمة رواياتهما، بعيداً من المؤسسات الرسمية “الداعمة”. وهما الروائي محمد شكري (1935-2003) من المغرب وعلاء الأسواني من مصر. قد تحبّ كتاباتهما أو لا تحبّها، قد تختلف مع أفكارهما أو تتّفق، لكن علينا الاعتراف بأن في الأدب الروائي المعاصر باللغة العربية، يظلّان الاسمين اللذين حقّقا مكانة في “المقروئية” الغربية. هنا، أستثني نجيب محفوظ لأن حالته خاصة جداً، فهو حاصل على جائزة نوبل للآداب. وهذه وحدها استثمار إعلامي كبير وعالمي للقراءة. إنّ محمد شكري من خلال “الخبز الحافي” وعلاء الأسواني من خلال “عمارة يعقوبيان” (مثلاً) حقّقا ما يُسمّى في أوروبا بـ”ظاهرة المكتبة” «le phénomène de la librairie» . فكلنا يذكر قصة رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري، التي ترجمها إلى الفرنسية الطاهر بن جلون بعدما كان قد ترجمها إلى الإنجليزية بول بولز. في الوقت ذاته، ظلّ النص الروائي ممنوعاً من النشر في لغته الأصلية العربية. لقد قرأه الأوروبي والأميركي قبل أن يقرأه العربي والمغاربي. ولا يزال ممنوعاً في دول عربية ومغاربية عدّة. هناك بعض الأسماء الأخرى المهمة في المشهد الروائي العربي، غالبيتها تعيش في المنافي، وتُرجمت بعض رواياتهم بصدق وتعرف بعض الحضور، لكنه حضور محتشم، أي لا يمثّل ظاهرة قروئية واضحة. وهم أنفسهم ضحية هذه الوضعية المعقّدة.

لماذا لا يرتاح القارئ الأوروبي للرواية العربية المترجمة؟

يعتقد القارئ الأوروبي والأميركي أن المجتمعات التي يُكرَّس فيها القمع وتُحظَّر فيها الحريات الجماعية والفردية، لا يمكنها أن تسمح بنشوء نصّ روائي متطوّر. وهذه حال الأنظمة العربية المغاربية بشكل عام. فالكاتب فيها يعيش بين منع سياسي تمارسه الأنظمة القائمة منذ الاستقلالات الوطنية من جهة، ورقابة دينية تفرضها القوى الإسلامية المتطرّفة التي تصل إلى حدّ الاغتيالات من جهة ثانية.

ففي ظلّ أنظمة ديكتاتورية بدرجات متفاوتة، وفي ظلّ تشدّد ديني يراقب الحياة الخاصة والعامة بتفاصيلها من اللباس إلى اللغة إلى المأكل إلى الخيال إلى السياسة، لا يمكننا تصوّر ولادة نص جميل وقوي وحرّ، تقبله دور نشر عربية أو شمال أفريقية والسماح بتداوله في المكتبات العامة والخاصة، إذ إنّ كل ما هو منشور في العالم العربي وشمال أفريقيا محلّ شكّ وتساؤل.

وهناك الرقابة المتشدّدة على الكتاب المستورد في العالم العربي. ففي هذه البلدان، تُعتبر حركة الكتاب أخطر من حركة تهريب “المخدرات”. وهو ما يجعل النص العربي والمغاربي يعيش حالة من الانفصال عَمّا يُكتب في سياق الإبداعية العالمية.

وعلى الرغم من المحاولات المعتبرة للترجمة إلى العربية، إلّا أنّها لا تزال ضعيفة ومرتبكة ومن دون استراتيجية شاملة. وهي في الغالب ترجمة تتولّاها مؤسسات حكومية لها تصوّراتها السياسية والأيديولوجية، ما يجعل الاختيار خاضعاً لهذه المقاييس، وإعمال المقص داخل كثير من النصوص العالمية التي تُترجم إلى العربية (روايات هنري مللير، روث، صولير، وحتى الكوميديا الإلهية نموذجاً)، لعدم توافقها مع السياسي أو الديني أو الأخلاقي كما تتصوّره الأنظمة الحاكمة.

صحيح أنه في ظلّ التكنولوجيا المعاصرة، أصبحت الكتب تعبر الحدود بطريقة مختلفة عن الطرق القديمة الخاضعة للشرطة الكلاسيكية، لكن وصول الكتاب الأجنبي عبر الوسائط الحديثة يتطلّب التمكّن من اللغات الأجنبية للقراءة. وهذا مشكل آخر تعاني منه المجتمعات الثقافية العربية. فنحن نعود شيئاً فشيئاً إلى مجتمع اللغة الواحدة. فالتعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، أصبح فيه مستوى اللغات الأجنبية الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية ضعيفاً جداً. هذا المستوى، للأسف، لا يسمح بالغرف من الكتب في لغتها الأصلية المباشرة.

كما أن ما يُتَرجم من الرواية العربية والمغاربية إلى اللغات الأجنبية، ليس دائماً هو الجيد. فالترجمة تخضع لمسائل عدّة، من بينها “الشِلَلية” الثقافية التي تقدّم كتاباً وتؤخّر آخر، خصوصاً حينما تكون الترجمة مدعومة من مؤسسات بعينها. هذا هو الواقع. فغالبية الروايات المنشورة، ترجمتها إمّا مدفوعة الأجرة الكاملة من مؤسسات محدّدة أو مدعومة من هذه المؤسسات. بالتالي فهذه المؤسسات لا تسمح بنشر إلّا ما يتناسب وسياستها، ولا تدفع مالاً لترجمة إلّا لكتّاب يدورون في فلكها.

ما لا يعجب القارئ الأجنبي في النصوص الروائية العربية المترجمة هو الثرثرة الإنشائية والبلاغة الزائدة وغياب البعد الفلسفي في النصوص والاعتماد بكثرة على مواضيع إقليمية غير مشبوكة بما يجري في العالم بشكل عام وبشكل بنيوي.

إن الكتّاب “النجوم” في البلدان الأخرى، حين يترجمون إلى اللغات الأجنبية ينتشرون ومعهم الشهرة في العالم. فمَن هو مشهور في بلاده يجد الشهرة ذاتها أو ما يقاربها في البلدان الأخرى التي يُترجم إلى لغاتها. ومن أمثلة ذلك غارسيا ماركيز وكارلوس فوينتيس وخورخي بورخيس وموراكامي وباولو كويلو وروث وجون لو كاري وكارلوس رويث زافون… فشهرة هؤلاء الكتّاب ليست شهرة “الدشرة” أو “القبيلة” أو” المؤسسة” أو “الميليشيات الإعلامية” كما هي حال بعض “مشاهير” كتاب العربية، بل هي شهرة عالمية، تنطلق من قوة النص الأدبي نفسه. لذا، حين ينتقل النص إلى العالم معافىً، يحظى بالاستقبال والحفاوة حتى لو تأخر ذلك قليلاً.

ما يُلاحَظ عادة هو أن كتّاب المشرق وشمال أفريقيا الذين يحظون بانتشار واسع في أوساط القرّاء الأوروبيين والأميركيين هم الكتّاب الذين يكتبون باللغات الأجنبية مباشرةً، وحين تُترجم رواياتهم إلى لغات أخرى في العالم، نلاحظ أنها عادة ما تلقى الصدى ذاته الذي لقيته في اللغة الأصلية التي كُتبت بها، الفرنسية أو الإنجليزية، على غرار أسماء من أمثال رشيد بوجدرة والطاهر بن جلون وياسمينة خضرا ونور الدين فرح وكمال داود وبوعلام صنصال وعبد الوهاب مؤدب وأمين معلوف وآسيا حبار.

الرواية التي تعبّر عن المواطن العربي والشمال أفريقي، والتي يُقبِل عليها القارئ في العالم بتفاوت بين هذا الكاتب وذاك، هي تلك التي تُكتب في لغة أجنبية، الفرنسية أو الإنجليزية، وتُنشر عادة في دور نشر أجنبية ومنها تنتقل إلى لغات العالم الأخرى.

www.independentarabia.com