استعدت حكاية «قلم أينشتاين» في ظلّ التداعيات الخطرة التي سببّها وباء كورونا «كوفيد 19»؛ وذلك لسببين: الأول، الاستنفار العلمي لاكتشاف لقاح أو دواء للوباء؛ والثاني، ما تردّد لدى أوساط متدينة في مجتمعاتنا من أعمال جهل وخرافات للاستهانة بالوباء، تحت عناوين دينية، لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد.
يشهد العالم أزمة من أخطر الأزمات الكونية التي عرفتها البشرية، ولاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد شملت جميع مناحي الحياة لدرجة استحالة إيقافها عند حدود أو مطارات أو موانئ أو حواجز برّية أو نهرية أو بحرّية، وكذلك تعذّر إيقافها بجهد خاص لدولة مهما كبُرت أو امتلكت من وسائل، الأمر الذي يتطلب عملاً جماعياً دولياً وتعاوناً علمياً وتكنولوجياً وتفاهماً سياسياً واقتصادياً، وقبل كلّ شيء إرادة حقيقية لوضع حد للجائحة تمهيداً لإيجاد حلول ومعالجات للقضاء عليها.
ويعتبر «كوفيد -19» أشدّ خطراً وأسرع انتشاراً من جميع الأمراض والأوبئة التي سبقته مثل مرض نقص المناعة «الإيدز» وإنفلونزا «الطيور» و«الخنازير» وقبل ذلك «جنون البقر» وغيرها من الأمراض التي اجتاحت البشرية في السنوات الأخيرة، في حين هيمن كورونا على كل شيء في حياتنا وتحوّل إلى هاجس مقلق للجنس البشري بسبب انتقاله المرعب متخطياً سرعة الضوء والصوت بالتعبيرات المجازية وغير المجازية، فمن الصين وطريق الحرير القديم إلى إيران ومنها إلى إيطاليا مروراً بالمنطقة العربية ووصولاً إلى أوروبا إحدى أهم محطاته، ومنها انطلق إلى القارة الأمريكية وأستراليا ونيوزيلندا.
ولعل هنري كيسنجر على حق حين يقول: إن كورونا سيغيّر النظام العالمي، والأمر لا يتعلق بالأضرار الصحية، وهي ليست قليلة ولا يستهان بها، لكن الأضرار التي تتعلق بالاقتصاد ستستمر لأجيال. ومعنى ذلك أن الجميع أصبح في دائرة الاستهداف على نحو عشوائي ومدمّر، وقد يؤدي ذلك إلى ضعضعة أركان بعض الدول العظمى بما فيها الولايات المتحدة، بسبب تداعياته الاقتصادية والمالية والتجارية والصناعية والزراعية والبيئية والقانونية والتربوية والتعليمية والثقافية والدينية وغيرها.
فلم تعد الحدود حاجزاً، فالوباء لا يفرق بين نظام وآخر وبين غني وفقير ومؤمن وغير مؤمن وأسود وأبيض، فبطشه وقسوته تطال الجميع، الأمر الذي يتطلّب تعاوناً دولياً لإطلاق مشاريع تتجاوز الإيديولوجيات والأديان والقوميات، وتأخذ مصالح البشر، شعوباً وأفراداً بنظر الاعتبار، لأن ليس بإمكان دولة مهما عظمت أن تتقي شرور الوباء بحكم كون العالم «قرية صغيرة» متواصلة ومتّصلة لدرجة التشابك.
وهكذا يصبح التعاون الدولي في المجالات كافة «فرض عين وليس فرض كفاية»؛ بل ضرورة من ضرورات مرحلة ما بعد كورونا، بتجاوز جميع أنواع الانغلاق والتعصّب والتطرّف والكراهية للآخر، لأن تعزيز القدرة العالمية على المواجهة تعني رفع درجة القدرة على الوقاية أولاً، ثم المعالجة، وأخيراً الرعاية والحماية اللّاحقة.
ويتطلّب ذلك تطوير مناهج البحث العلمي للأغراض السلمية والتخلّي عن الميزانيات الضخمة المخصصة للتصنيع العسكري والأغراض الحربية، وتوجيهها للصحة والتنمية والتعليم والبيئة وعلوم الفضاء وكل ما له علاقة بتحسين حياة الناس ورفاههم وضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية، على صعيد كل بلد وعلى صعيد نظام العلاقات الدولية، بما فيه نظام إدارة المجتمع الدولي وتطوير الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.
وكشفت الأزمة هشاشة العديد من الأنظمة السياسية التي لم تُولِ اهتماماً كافياً بالإنسان وحقوقه بما فيها «الحق في الصحة» الذي هو حق أساس بغض النظر عن الفوارق الطبقية والتفاوت الاجتماعي، مثلما أظهرت أهمية وضرورة «التدخل الإيجابي» للدولة ومساهماتها في تأمين الرعاية الصحية والضمان الصحي للجميع، حتى إن أنظمة تعاني شحّ الحريات كانت أكثر جاهزية وانضباطاً وقدرة على مواجهة الأزمة، بل إن بعضها أرسل دعماً لدول أكثر تقدماً، وتلك إحدى المفارقات التي أكدت أهمية التعاون الدولي لحماية الإنسان لأنه «مقياس كل شيء» على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوجوراس.
وبالعودة إلى قلم أينشتاين، فقد أهداه إلى أحد تلامذته النابغين وأصبح هذا رئيساً لجامعة بغداد (1958-1963) وظلّ يحتفظ بالقلم الثمين الذي خصّصه للتوقيع على شهادات الخريجين، لكنه فقده يوم اعتقل وأهين إثر انقلاب دموي (8 فبراير/شباط 1963)، واضطرّ بعدها إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة ليتوفى فيها العام 1969، إنه عبدالجبار عبد الله عالم الفيزياء النووية.
ما أحوجنا إلى قلم أينشتاين، بمعنى إلى العلم وإعلاء شأن العلماء لتحقيق مستلزمات النهضة في مواجهة المرض والجهل والتخلف، ففي ذلك يكمن سرّ الجواب على سؤال شكيب أرسلان (مفكر لبناني) «لما تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟».
جريدة الخليج