بعد تسع سنوات على رحيل صاحب «لن»، أراد محبوه والأصدقاء في بيروت أن يجعلوا من المناسبة أكبر من مجرد ذكرى وتكريم، وحفل يتحلقون خلاله حول شاعرهم. فللمرة الأولى ستصدر دواوين أنسي الحاج الشعرية في كتاب واحد، يحمل اسم «المجموعة الكاملة»، وفي الأفق رؤية لإصدار كل كتاباته شعراً ونثراً. الكتاب الأول، إذن، يقتصر على الجزء الشعري من أعمال الحاج، على أن تتبعها الأعمال الأخرى، «وأملنا أن نلفتَ انتباه الأجيال الجديدة لها وله، شعلة النار التي اتَّقدت في ستِّينات القرن الماضي، والتي لا تزال متوهِّجة تحت أوراق الخريف»، وفق الناشر في مقدمة الكتاب.
قد يستغرب البعض أن عدداً من كتب أنسي الحاج، ليست موجودة اليوم، بعد أن نفدت ولم تعد طباعتها من جديد. وبالتالي، فهي ليست في الأسواق ولا في دور النشر. فمنذ عام 1960 يوم صدر «لن» عن «دار مجلة شعر» إلى آخر دواوينه «الوليمة» الذي صدر عن «دار رياض الريس» عام 1994 مرّ وقت طويل، وخاض لبنان أزمنة عصيبة، وأعادت «دار الجديد» طباعة مجمل دواوينه باستثناء الأخير «الوليمة».
وفي عام 2007 صدرت طبعة شعبية عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في مصر لأعمال أنسي الحاج ضمن سلسلة «الأعمال الكاملة» في ثلاثة كتب.
هذه المرة تقول ندى الحاج، ابنة الشاعر التي قامت بمهمة الإشراف على جمع الدواوين، إن الفكرة أتت من خالد الناصري، صاحب «دار المتوسط» في إيطاليا يوم تواصلت معه، لطباعة ديوانها الأخير «عبير الدهشة» فاقترح عليها البدء بطباعة المجموعة الكاملة لوالدها. كان ذلك عام 2020، ومن حينها وندى الحاج منشغلة بتنفيذ هذا الكتاب الأول.
«فترة الحجر أعطيت لتنفيذ هذا المشروع. العمل صعب وطويل والظروف لم تكن سهلة. تأخرنا ما يقارب السنتين. وحين عرض علينا أن نقيم أمسية لأنسي الحاج، قررنا أن نحول غيابه إلى حضور، وأن نقرن الأمسية بإصدار الكتاب، وهكذا كان».
غلاف الكتاب الأول
وتضيف: «نود بعد ذلك أن نعيد إصدار «كلمات كلمات كلمات» في مجلدين. وهي المقالات التي كتبها في جريدة «النهار» من منتصف السبعينات إلى الثمانينات، ثم إصدار «خواتم» في مجلدين آخرين، وهي المقالات التي كانت قد صدرت عن «دار رياض الريس» في بيروت سابقاً، يضاف إليها «خواتم3» هي التي لم تجمع من قبل. وثمة نية لإصدار كتاب إضافي يضم «الترجمات». هذا المشروع سيحتاج وقتاً وجهداً. نسأل ندى إن كان أنسي لا تزال له نصوص محفوظة لديها غير التي نشرت في كتاب «كان هذا سهواً» وصدر عام 2016 عن «دار نوفل». «كتب أنسي الحاج باكراً في مجلات مثل الحسناء، وصحف، ومطبوعات عديدة. وهذا الكتابات لا تزال متفرقة وتحتاج من يجمعها. وهو ما يحتاج عملاً طويلاً. كما أن بعض هذه الكتابات لم تكن باسمه الصريح». أحياناً كان الحاج يكتب في البدايات بأسماء مستعارة منها «السراب العاري» الذي لا يحضر ندى غيره، لكن ثمة أسماء أخرى. كان يلجأ لهذه الحيلة لأسباب عديدة؛ منها أنه كان ينشر في أكثر من مطبوعة في وقت واحد. وهذه الكتابات المتفرقة التي بينها قصص قصيرة، قد تصلح لأطروحة أو لمجموعة أبحاث إن أمكن جمعها للعمل عليها.
في الوقت الحالي، ننتظر صدور أجزاء المجموعة الكاملة عن «دار المتوسط»، التي تم الاحتفاء بالكتاب الأول منها، مساء الاثنين، ضمن أنشطة «مهرجان بيروت للأفلام الفنية» في العاصمة اللبنانية، بحفل موسيقي شعري استمر لما يقارب الساعة، في مسرح «ليلى تركي» في «المكتبة الشرقية» التابعة لـ«الجامعة اليسوعية».
الكتاب الأول من المجموعة الكاملة الذي أبصر النور، يحوي الدواوين الستة: «لن» 1960، «الرأس المقطوع» 1963، «ماضي الأيام الآتية» 1965، «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» 1970، «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» 1975، «الوليمة» 1994. وهو مزدان برسوم مستوحاة من القصائد نفذها الشاعر الفلسطيني المقيم في ألمانيا رائد وحش. وهو كان قد رسم بعض هذه اللوحات بفعل تأثره بأعمال الحاج، حتى قبل مشاركته في الكتاب.
أما الغلاف فمن تصميم ناشر الكتاب الشاعر خالد الناصري، عليه بورتريه لأنسي الحاج، بريشة الراحل بول غيراغوسيان.
وفي الكتاب مقدمة للناصري مؤثرة تحمل عنوان «أنا وأنسي»، يشرح فيها عشقه المبكر لدواوينه بدءاً بديوانه «لن» الذي كان يذهب لأيام متتاليات إلى المكتبة الوطنية بدمشق ويقرأه، ثم «أبحث عن الطاولة الأكثر عُزلة وأجلس. كنتُ أقرأ (لن) كاملاً كلَّ يوم، ثم أنسخ منه على دفتري قصيدة واحدة، ثم أكتب عشرات القصائد متعمِّداً تقليد تلك القصيدة، كان هدفي أن أتشبَّع بأُنسي الحاجّ، أن يسري شِعْره إلى نقي عظامي، أن يدخل في تركيب الـ(د إن آي) خاصَّتي. أن أفوحَ شِعْراً مثله».
ويشرح الناصري أنه في تلك السن المبكرة نسخ مجموعات أنسي الحاج الشعرية واحدة تلو الأخرى على دفاتر «نزعتُ عنها الغلاف، وعوَّضتُها بأغلفة من تصميمي أو (شخبراتي) بتعبير أدقّ حينها. المهمُّ كانت تلك هي المرَّة الأولى التي أكون فيها ناشر أُنسي الحاجّ، ناشره السرِّيّ. ما زلتُ حتَّى الآن أذكر تلك الأغلفة والدفاتر التي رافقتْني لفترة لا بأس بها، إلى أن ضيَّعتُها «في صحراءِ اليقينِ المُظفَّر».
ويكمل: «ها أنا الآن أصبح ناشره مجدداً، ولكن العلني هذه المرة، وبأغلفة ودفاتر لن تَضيع».
إذا كان الاحتفاء اليوم بأنسي الحاج الشاعر الذي لا ينسى بعد أن تحول إلى نموذج وعشق ووله للبعض، والمؤسس لقصيدة نثر عربية بنفح فلسفي، فإن وجوهه الأخرى لا تزال في الظل. أنسي الحاج كان مترجماً أيضاً، نقل العديد من المسرحيات التي أسست لمسرح لبناني طليعي مع نضال الأشقر وروجية عساف، وبرج فازليان، من خلال أعمال ليونسكو وألبير كامو وبرخت وغيرهم، كذلك علاقته بالمسرح الرحباني، ولاحقاً بمسرح كركلا، وحتى دوره كرئيس تحرير وفي صناعة صحافية، بحرفية استثنائية. وجوه أنسي الحاج كثيرة ولا نزال منها على شاطئ الشعر.
جريدة الشرق الأوسط