من أعظم الأشياء التي تفخر بها الثقافة العربية في تاريخها الحديث، كوكبة من «قُرَّاء القرآن الكريم» الذين أنجبتهم مصر، وطافوا في كل الدول الإسلامية وغير الإسلامية، ونشروا القرآن الكريم في كل بقاع الدنيا، ولا تزال أصواتهم تتردد بين شعوب العالم.
اليوم، لم تعد لدينا تلك القامات والأصوات، ولا نزال نعيش على هذا التراث الرائع من قراءات القرآن الكريم، كونه علماً قائماً بذاته له مدارسه ومشايخه ومُريديه.
لقد كان في مصر في يوم من الأيام عدد من كبار الرموز الذين حملوا رسالة هذه القراءات وحافظوا عليها، ثم رحلت تلك الرموز ولم تأت بعدها أجيال أخرى تملأ الفراغ، ومع ذلك فقد بقيت لنا ذكريات كثيرة مع تلك الكوكبة من القرَّاء، وإن كانت الإذاعات والفضائيات العربية لم تعد حريصة على تقديم تلك الأصوات التي كانت تهزُّ أركان القلوب في العالم الإسلامي. كثيراً ما أبحث الآن عن أصوات قرّاء، منهم: الشيخ محمد رفعت، وعبدالباسط عبدالصمد، ومصطفى إسماعيل، وأبوالعنين شعيشع، والمنشاوي، والبنا، والحصري، ذلك أن كلَّ واحد منهم كان مدرسة في الأداء والرصانة والتلاوة وصدق الإيمان.
ومنذ غابت هذه الأصوات خسرت اللغة العربية ركناً من أهم أركانها، وتوقفت المدارس عن تحفيظ القرآن الكريم وغابت حصة المحفوظات وقصائد الشعر الجميلة، وأصبحت اللغة العربية لغة القرآن الكريم غريبة بين أبنائها، وأصبح من السهل أن يخطئ إمام المسجد في قراءة آية قرآنية قراءة سليمة.
لقد كنا في زمان مضى نفتح عيوننا على قرآن الصبح في معظم الإذاعات العربية، وكنا نأخذ منها دروساً في الإيمان واللغة والأداء، ومنذ غابت تلك الدروس في حياتنا انزوت اللغة العربية، وأصبحت هناك شكوى في كل بيت: إن الأبناء لا يتحدثون اللغة العربية، وإن اللغات الأجنبية أصبحت لغة كل الأجيال الجديدة في العالم العربي.
كانت المدرسة تعلم اللغة العربية، مثلما كانت قراءة القرآن، وخطب المساجد، وأحاديث النخبة، وأقلام الكتاب والشعراء تعلم اللغة العربية أيضاً، ومنذ تهاوت كل هذه الأركان سيطرت ثقافات الآخرين على ثقافتنا العربية، وخرّجت أجيالاً، الكثير منهم لا يحفظ حرفاً من لغته العربية.
في يوم من الأيام سوف يقول التاريخ: «كانت هنا أمة تعيش في أرض واحدة، وتؤمن بدين واحد، وتتحدث لغة واحدة، وحين فرطت في لغتها خسرت كل شيء». وقبل حدوث هذا لا أزال أبحث عن أحد قرَّاء القرآن الكريم من كوكبة الزمن الجميل، وأقول: أين ذاك الزمان؟
صحيفة الرؤية