رجل ما شجاع ووديع أيّ وداعة، جالس وبهدوء يحتسي مشروبه السحري. إنه هنا، جامد في مكانه، يجلس لا مبالياً وبلا طاقة… وفجأة يثب، يأخذ خنجره، ويهرول إلى الطريق، ويركض إلى الأمام مباشرة، إلى الأمام دائماً، دون أن يعرف إلى أين، وكلما اعترضه في طريقه شيء، بشر أو حيوانات، أخرج خنجره وقتله. تجعله رائحة الدماء أكثر وحشية، يمتلئ فمه لعاباً بينما يركض، ويتناثر رذاذ بصاقه، يزمجر مثل مسكون، ولكنه يواصل الركض، يركض ويركض دون أن يلتفت إلى اليمين أو الشمال، دون أن يفعل شيئاً آخر غير الركض والصراخ الحاد، منتصراً في سباقه المضني، ومواصلاً إلى الأمام دائماً، شاهراً خنجره الذي ينز دماً.
يعرف أهل القرية أنه لا توجد قوة قادرة على إيقافه؛ لذلك كلما رأوا أحدهم قادماً، كانوا يصرخون بكل ما يملكون من قوة منذرين الناس: «آموك! آموك…!» ويهرب الجميع، لكنه لا يسمعهم، ويواصل ركضه. يركض دون أن يسمع شيئاً، يركض دون أن يرى شيئاً، يذبح كل من يعترضه، إلى أن يُقتل كما لو كان كلباً مسعوراً منهاراً ومزبداً لحظة نحبه.
«آموك» الشخصية الأسطورية القادمة من جنوب شرق آسيا، استخدمها الكثير من الكُتّاب في رواياتهم وكتبهم، وكان منهم الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، الذي استخدم الاسم في عنوان روايته «آموك.. سعار الحب» واصفاً بها بطل روايته الدكتور الهارب من أوروبا إلى الهند بالعبارات السابقة كما أتت على ذكر «آموك» الكاتبة الأمريكية إليزابيث جيلبرت عندما ذهبت لتقيم فترة في جزيرة «بالي» الإندونيسية كي تتعلم من العراف الباليني «كيتوك لاير» بعض الدروس، بعد تلك التي أخذتها في «اليوجا» خلال سنوات إقامتها في معتزل بالهند، وبعد الفترة التي قضتها في إيطاليا، كما ورد في كتاب سيرتها الشخصية الذي أسمته «طعام.. صلاة.. حب.. امرأة تبحث عن كل شيء».
أما الروائي البولندي كريستيان بالا فقد تسببت روايته «آموك» في الحكم عليه بالسجن 25 عاماً، عندما اكتشفت السلطات أنه وصف في روايته هذه بالتفصيل ملابسات جريمة وحشية قُتل فيها رجل أعمال بولندي، وتبين للشرطة أن الجريمة الخيالية مشابهة إلى حد كبير لملابسات جريمة وقعت عام 2000 حين استُخرِجت جثة من نهر «أودير» في بلدة «روكالو» قرب الحدود مع ألمانيا، وقال المدعون إن «بالا» أذل وعذب وحرم الضحية، الذي كان على علاقة آثمة مع زوجة الروائي، من الأكل قبل أن يقتله.
من الأساطير الآسيوية والروايات والكتب انتقلت شخصية «آموك» لتصبح مرضاً نفسياً يُطلق عليه «متلازمة آموك». وهو حالة يصبح فيها الفرد غير منتظم مؤقتاً وغير عقلاني، ويفقد السيطرة ويهاجم بطريقة عنيفة وغير مبررة الأشخاص أو الأشياء الموجودة في متناول يده.. إنها متلازمة نادرة، ذات طبيعة ثقافية، منتشرة في ماليزيا وبورتوريكو والفلبين، على الرغم من وجود حالات في الثقافات الحديثة، والذي يصاب بهذه المتلازمة قد يقوم بمهاجمة أي شخص أو كائن يعترض طريقه، سواء كان من الأصدقاء أو العائلة أو المارة، كما يمكن أن تستمر فورة العنف هذه لساعات حتى يتم تقييد الشخص، وفي بعض الحالات قتله إذا أصبح من الصعب السيطرة عليه.
وهناك حوادث معروفة لحالات في دول عدة، قام خلالها بعض الأفراد بمهاجمة أشخاص لا يعرفونهم، وتسببوا في قتل بعضهم وإحداث إصابات في بعضهم الآخر. وقد عزا الأطباء والمحللون النفسيون تلك الحوادث إلى هذه المتلازمة.
علينا ألا نندفع إلى مهاجمة الآخرين أو القضاء على أنفسنا عندما نتعرض لحادث أو موقف يحول مجرى حياتنا إلى ما نعتقد أنه الأسوأ، فثمة أشياء في الحياة، إن لم تكن أجمل فهي جميلة، نستطيع أن نستمتع بها لأن ما حدث لنا ليس هو نهاية العالم أو المحطة الأخيرة في الحياة.
هذا ما توصلت إليه إليزابيث جيلبرت فعلاً بعد أن أقامت فترة مع العراف البالي كيتوك لاير وقابلت المعالجة البالينية وايان نورياسي التي لم تعالج فقط ركبتها المجروحة من حادث اصطدام باص بالدراجة الصغيرة التي كانت تركبها، وإنما عالجت جروح روحها المكلومة بعد طلاقها من زوجها الذي كانت تحبه في أمريكا، ومن ثم قرارها بالرحيل إلى إيطاليا ومنها إلى الهند ثم إندونيسيا، حيث وجدت نفسها من جديد.
علينا أن نبحث عن السلام مع أنفسنا عوضاً عن أن نندفع لتدمير الآخرين وتدميرها، فالحياة ليست أكثر من رواية يختلف حجمها من شخص إلى آخر، وكثيراً ما تكون قصة قصيرة سرعان ما تنتهي قبل أن ننتهي من ارتشاف فنجان قهوة ونحن نتابع أحداثها. علينا أن نعي الدرس جيداً قبل أن نتحول إلى «آموك».
قبل أن نتحول إلى «آموك»
جريدة البيان