قطعتُ الطريق مشيا من شارع منيمنة إلى جنينة الصنايع، دخلت إلى بناية الأونيون، الطابق الرّابع، وسألت عن الأستاذ رياض، قادني الغضب إليه، وأنا أحمل أقسى رسالة رفض من دار الساقي لروايتي “تاء الخجل” التي رفضت من طرف أكثر من عشر دور نشر في بيروت.
أشارت لي سكرتيرته “تفضلي”، باب مكتبه كان مفتوحا، وكان غارقا في القراءة.
وقفت أمامه معتذرة لأني جئته دون موعد، فأجابني ببشاشة مفرطة “موعد شو يا بنت، نحن جماعة ورّاقين، لسنا مدراء، أبوابنا مفتوحة للجميع” حدّثته عن روايتي “تاء الخجل”، ووضعتها أمامه. بشكل عملي لم أتعوّد عليه عربيا، رافقني عند الأستاذ عماد العبدالله، وسلّمه المخطوط، وطلب منه أن يطّلع عليه سريعا. وهذا ما فعله أمامي، وأنا واجمة أتأمله وهو يقرأ أول فصل من مخطوطي بصوت عالٍ، أمّا باقي الحكاية فيعرفها القاصي والدّاني.. قبل أن تصبح الرواية بعد ستة أشهر واحدة من أهم إصدارات منشورات الريّس، وتشق طريقها في عالم الأدب مثل إعصار صعب إيقافه رغم الحرب الشعواء ضدها.
كان ذلك لقائي الأول بشيخ الناشرين المحترمين رياض الريس أواخر خريف 2002، الورّاق المتواضع المكابر، الحادّ كالسيف، اللطيف كالماء الدافئ حين يغمر جسدا متعبا.
بردا وسلاما كان حضوره في حياتي منذ أول لحظة، أخمد غضبي حين حدّثته عن “رسالة الرّفض” بعبارة واحدة “كبّيها بالزبالة”.
في كل اللقاءات التالية به سأكتشف الوجه الآخر له، رجل من معدن نادر، لا مثيل له على الإطلاق، فقد كان ينشر ما يؤمن به، ولا يتقاضى قرشا واحدا على كتاب ينشره، في زمن أصبحت فيه بعض الدور تبيع اسمها بما يفوق الخمسة آلاف دولار.
الصعوبة كل الصعوبة أن يقتنع رياض الريّس بنص كاتب، لا شيء يغريه، لا خمسة آلاف دولار، ولا عشرة، لقد ولد الرّجل شبعانَ، بعزّة نفس لم تهزّها أزماته المادية التي عصفت به. “ابن عزّ أصلي” كما نقول بلهجتنا.
والأكيد أنه ظلّ يقرأ إلى آخر يوم في حياته، يستحيل أن تخرج كلمة في كتاب تبنّى نشره ولا يشارك كاتبه المسؤولية فيه، خلت الكتب الصادرة من داره من عبارة “الآراء الواردة في الكتاب تعبّر عن رأي كاتبها وحده”.
واجه كل أنواع الخسارات وظلّ رابحا نفسه، لا عقبة أوقفت شغفه باقتناء التحف، واللوحات غالية الثمن، عشق السينما وقد كانت من طقوسه الأسبوعية. مثقّف عصيّ على التدجين.
كل الرموز التي صعب عليّ الوصول إليها من كتاب وشعراء التقيتهم في مجلسه في معرض الكتاب، ينكسر وهج “المشهورين” مهما كان كبيرا أمامه، يقدّمهم مجرّدين من ألقاب الغرور كلها، يحب النّاس، يحب كتّابه وقرّاءه بشدة.
كان أقسى مشهد عليّ غيابه عن آخر معرض كتاب في بيروت، تلاه خبر وفاته واليوم شعرت أن بيروت اكتمل انطفاؤها.
جريدة الرياض