في التقدم المعرفي والثقافي – بقلم عبد الاله بلقزيز

12120201

ربما صح القول، نسبياً، إن لميدان المعرفة والفكر والثقافة استقلالية نسبية عن ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع. ومرد ذلك إلى أن للمعرفة والفكر زمناً خاصاً (الزمن المعرفي) غير زمن الواقعات (أو الزمن التاريخي) يتطوران فيه، وقد يكون أسرع – كما قد يكون أبطأ – من الزمن الخاص بالبنى الاجتماعية الأخرى. لاحظ ماركس ذلك، مبكراً، حين وصف بلاده ألمانيا بأنها تعيش فكرياً ما تعيشه بريطانيا اقتصادياً وما تعيشه فرنسا سياسياً؛ أي أن صعيدها الفكري – الثقافي متقدم وغير متناسب، بالتالي، مع صعيدها الاقتصادي وصعيدها السياسي المتأخريْن. ومع ذلك، فالتقدم في ميدان المعرفة والفكر والثقافة والتربية شرط لازب (/ضروري/) لأي تقدم في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والتكنولوجيا؛ وعلى قاعدته تقدمت بريطانيا وفرنسا حينما لاحظ ماركس ما لاحظة؛ بل على قاعدته سيحصل لألمانيا تقدمها السياسي وثورتها الاقتصادية بعد وحدتها القومية في عام 1871 بقيادة بسمارك.

  يمكن لتقدم المعرفة والفكر والثقافة أن يبصر النور من طريق جهود أفراد مبدعين شغوفين بالتحصيل العلمي والثقافي؛ ويمكن لهؤلاء أن يطلقوا حركة واسعة من التيارات والمدارس وينتجوا نهضة ثقافية كبيرة، كما حصل في أوروبا بين القرنيْن السادس عشر والثامن عشر (فقاد – استطراداً – إلى الإصلاح الديني والثورة العلمية والصناعية والثورات الديمقراطية…). غير أن تقدم المعرفة والفكر، اليوم، لم يعد حصيلة مجهود أفراد مرموقين؛ بل من طريق مؤسسي؛ من طريق النهوض بالمؤسسات المنتجة للمعرفة والعلم والثقافة. وعليه، بات مقياس التقدم في المجال هذا هو درجة النمو والتقدم الذي تحرزه قطاعات ثلاثة: قطاع البحث العلمي؛ النظام التعليمي؛ ثم نظام الاكتساب اللغوي. والقطاعات هذه لم تعد مجرد ميادين لتجسد عملية التقدم فيها؛ بل باتت من وسائل إنتاج التقدم التي لا غنى عنها.

منذ ثورة الميكانيكا والبخار، في القرن السابع عشر، حتى الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، اليوم، كان مبنى الفتوحات الصناعية والتكنولوجية: المدنية والعسكرية، على البحث العلمي. لم يعد التقدم المادي وقفاً على امتلاك الثروات الطبيعية؛ أصبح متاحاً للجميع إن أفلحوا في استثمار الثروة البشرية من خلال تنميتها العلمية. والعلم لم يعد محض نظريات اختُبِرت في المخابر التجريبية وثبتت صحة فرضياتها؛ بل أصبح وقوداً للتنمية والتقدم منذ أفْلِح في تطبيق نتائجه في ميادين الاقتصاد والاجتماع. وما من مجتمع، اليوم، يملك أن ينهض ويحرز نجاحات في التنمية والتقدم إن لم يبن قاعدة علمية يتوسلها في العملية التنموية، وأن ينفق على برامجها ويتعهدها بالرعاية، وتكون منزلتها في سياساته العليا منزلة المادة الاستراتيجية المركزية والقطب الذي عليه تدور آلة السياسة والإنتاج.

وليس من سبيل إلى ابتناء قطاع علمي حقيقي إلا من طريق تحديث المنظومة التعليمية وإعادة تأهيلها حتى تكون قادرة على أداء دور مصنع المعرفة في المجتمع، ومصدر التثقيف والتنوير وصقل الوعي. الاستثمار في النظام التعليمي، اليوم، استثمار في المستقبل؛ في التنمية والنهضة والتقدم وبالتالي، توفير لقاعدة الارتكاز لتنمية البحث العلمي. وكما لا تملك الأسر الفقيرة من وسيلة للترقي الاجتماعي سوى تعليم أبنائها، كذلك ليس للدول الفقيرة من طريق إلى التقدم إلا بنشر التعليم بين مواطنيها وتطوير المنظومة التعليمية وتأهيلها لأن تنتج الموارد البشرية المؤهلة لخوض غمار البناء التنموي والنهضوي الذي تتغيّر به أوضاع المجتمع إلى الأحسن. وما من مجتمع من مجتمعات العصر الحديث أصاب نجاحاً في تحقيق إقلاعه النهضوي إلا من هذه الطريق، ومن بوابة التعليم الحديث والمنتج.

   الاكتساب اللغوي ثالثة الأثافي، لأنه من غير حيازة اللغات تمتنع حيازة المعارف. ولكن الحيازة هذه لا تكفي، وحدها، مجتمعاً كي ينهض تعليمه وتنطلق تنميته إن لم تسبقها حيازة فعلية للغته الوطنية والقومية؛ فهذه بها تكون التنمية كما أن بها تكون النهضة والتقدم. وما من أمة تحترم نفسها استعارت لسان غيرها وتوسلته كي تتقدم، إلا إذا هي اختارت أن تكون تابعاً له؛ والتبعية ما كانت، يوماً، رديفاً للتقدم، لأن من مستلزمات التقدم هذا التحرر والسيادة. ولكي يحتاز مجتمع لسانه حسن الاحتياز، عليه أن يتعهده بالتطوير والتأهيل والدرس العلمي، ليكون أهلاً لخوض المنافسة العلمية والثقافية في عالم اليوم.

 تلك هي مداميك التقدم في وجوهه المعرفية والعلمية والثقافية، وهي الوجوه التي لا تنفصل عن الوجه المادي للتقدم.