لطالما أشبهت مداخلات فرانسيس فوكوياما، السياسية، والفكرية، بإلقاء حجرٍ ضخمٍ على بحيرة راكدة، إذ ينشغل المفكر الحيوي بمراقبة العالم وتحولاته السياسية، ويضع بين يدي الباحثين أطروحاته المدوية، التي يعتبر بعضها تمرينات واختبارات لوقائع تمر بها البشرية.
استفاض بالتنظير السياسي بغية تشكيل انغلاق بسببٍ من اكتمالٍ محدد يأتي بعد صراعٍ جدلي يلتقي محققاً ذروة من ذروات التاريخ، ومن ذلك أطروحته الأشهر حول «نهاية التاريخ»، بمعنى تحقق ذروة من ذرواته، وقد طرحها مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وتسيد النظام الليبرالي، وتفوق الديمقراطية الغربية.
فوكوياما في كثيرٍ من أطروحاته لم يغادر مقولات هيغل التي استقاها عبر كوجيف، وبحث بمرحٍ ذاتي غامر عن نقطة التقاء العقلي والواقعي بالهيغلية الكلّية، لقد خبر الصراع وعلاقته بالتاريخ؛ لم تستهوه الليبرالية الكلاسيكية القديمة الساكنة كما عند هوبز، ولكنه في معظم ما كتب من بعدُ، وبخبرتين؛ عملية وظيفية، وعلمية بحثية، حاول البحث عن صراع الأفكار، ومكر التاريخ وخبثه، لقد عمل باستمرار على مساءلة النظام الليبرالي، وفاعلية المؤسسات، ومقارنة النظم الليبرالية بغيرها.
لكن لماذا استعادة حديثه حول انغلاق التشكيل السياسي، أو اكتماله، بخاصة أنه دون ذلك في كتابه: «نهاية التاريخ أو الإنسان الأخير» قبل عقدين من الزمان؟!
السبب ما تضمنته مقالته الأخيرة المنشورة في «The Atlantic» تحت عنوان «الشيء الذي يحدد مقاومة بلدٍ ما للفيروس التاجي»، واعتنى بها ترجمة للعربية ياسر المعادات، ونشرت في موقع «حكمة» الفلسفي، وتضمنت العديد من الأفكار حول سياسات الحكومات تجاه الوباء، والاضطراب والإرباك الذي سببه. ما يهمني هنا المرور على حديثه حول النظم السياسية وتعاملاتها مع الجائحة، سأورد أفكاره حول التقسيم السياسي والليبرالية والديمقراطية، ثم أعلق عليها، وأفكار فوكوياما باختصار كالآتي:
– عندما ينحسر الوباء، أظن أنه سيتعين علينا تجاهل التقسيمات الثنائيّة البسيطة. إنّ الخطّ الفاصل الرئيسي في الاستجابة الفعّالة للأزمة لن يضع الأنظمة الاستبدادية في جهة، والديمقراطيات في الجهة الأخرى.
– أداء بعض الأنظمة الاستبدادية سيكون عالياً، وبعضها مع نتائج كارثية. سيكون هناك تباينٌ مماثلٌ – وإن كان من المحتمل أن يكون أصغر – في النتائج بين الديمقراطيات. لن يكون المحدد الأساسي في الأداء هو نوع النظام، ولكن قدرة الدولة، وقبل كل شيء، الثقة بالحكومة.
– تحتاج جميع الأنظمة السياسية إلى تفويض السلطة التقديرية للسلطات التنفيذية في أوقات الأزمات. لا يمكن لأي مجموعة من القوانين أو القواعد الموجودة مسبقاً توقّع جميع الحالات الجديدة والمتغيّرة بالسرعة نفسها التي ستواجهها البلدان فيها، تحدّد قدرة الأشخاص في القمة وأحكامهم، ما إذا كانت النتائج جيدة أم سيئة.
– الثقة هي السلعة الوحيدة الأكثر أهمية التي ستحدد مصير المجتمع. سواء في ديمقراطية أو في ديكتاتورية، على المواطنين أن يعتقدوا أن السلطة التنفيذية تعرف ما تفعله. والثّقة للأسف، هي بالضبط ما تفتقده أميركا اليوم.
– تختلف أنواع السلطة الممنوحة للسلطة التنفيذية حسب الظروف؛ ما كان مناسباً خلال وقت السلم ليس هو بالضرورة ما سيسود في أوقات الحرب أو الأزمات.
– في النهاية، لا أعتقد أنّنا سنتمكّن من التوصّل إلى استنتاجاتٍ عريضة حول ما إذا كانت الديكتاتوريات أو الديمقراطيات أكثر قدرة على النجاة من الجائحة.
– ما يهم في النهاية ليس نوع النظام، ولكن ما إذا كان المواطنون يثقون بقادتهم، وما إذا كان هؤلاء القادة يرأسون دولة كفؤة وفعالة. وفي هذا الصدد يترك تعمق القبلية في أميركا أسباباً قليلة للتفاؤل.
تلك أبرز أفكار مقالته، وأعتبر النقطتين الأولى والأخيرة لهما أهمية بالغة، إذ لا يمكن تقسيم الأنظمة السياسية إلى لونين، ديمقراطي وديكتاتوري، من دون أخذ التجارب الأخرى في الاعتبار، التي لا تدعي الديمقراطية، ولا تمارس الديكتاتورية، وأمثل بالدول الملكية الخليجية.
برأيي إن العدالة إجراء مستمر، ووعي الفرد باستقلاليته أساس لإبرام العقد الاجتماعي، والنظام المحقق لمستويات من الحرية، ومساراتٍ معتبرة من حيوية الشراكة السياسية البرلمانية والتشريعية لا يجعله في خانة الديكتاتورية على طريقة التقسيم القسرية التي ابتدعها بعض فلاسفة الليبرالية، فالفروقات المؤسسية والدستورية بين النظم غير الديمقراطية وبين الديكتاتوريات القمعية يجعل تلك الثنائية الإجبارية غير ملتزمة بدقتها العلمية ولا الوصفية. بل إن النظم الملكية تحقق غايات الديمقراطية من حرية أصلية، وتنمية اقتصادية، ورعاية اجتماعية، والجائحة العالمية أوضحت مستوى الجور والتجني وعدم الفهم لتلك الأنظمة السياسية الأقدر على مستوى المنطقة والأنجح في إدارة الموارد الطبيعية.
مقالة فوكوياما تضمنت اقتراح تجاوز ثنائية التقسيم، والإشارة للأنظمة التي لا تحقق النمط الغربي بشكلٍ منسوخ، وهذا يفتح باباً للنقاش بين الدارسين والمهتمين حول نموذج الدول الملكية بالخليج، وما حققتْه من تنمية هي الأنجح في تاريخ العرب الحديث.
جريدة الشرق الاوسط