هذا عمود مكانه، في العادة، صفحات المنوعات. يفترض فيه أن يكون طريفاً مبهجاً. من أين تأتي الطرافة ودم أطفال فلسطينيين يملأ الشاشات ويسيل من هواتفنا؟ لن ينفع، هذه المرة، التعليق على مسلسل نيوتن أو لوحة بيكاسو التي بيعت بالملايين أو مؤخر صداق زوجة بيل غيتس.
فلسطين هي الحدث والقدس هي العنوان. يرفرف صوت فيروز فوق أسطح البيوت ساحباً المستمعين إلى زهرة المدائن. «حين هوت مدينة القدس/ تراجع الحبّ وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب». وكلما حاول أنصار الواقعية السياسية وضع قضية فلسطين على الرف، عاد الغضب الساطع ليملأ الصدور. بل إن انتفاضة أهالي حي الشيخ جراح حققت ما تصورناه من المنسيّات.
يراجع العالم أسباب النزاع القديم بين شعب طرد من أراضيه وجاء مهاجرون من أوروبا ليحتلوا بيوته. نشأنا ونحن نسميها «فلسطين السليبة». شاخت التسمية واندثرت لتستفيق اليوم وتعود بقوة. هذا زمن المعلومات والأرشيفات والمساءلات. يقف برلمانيون أحرار في دول حرّة لينطقوا بما كان محرماً: يقولون إن ما تقوم به إسرائيل هو تمييز عنصري وخرق سافر لقرارات الأمم المتحدة. كلنا يحب السلام، لا سيما أبناء الشعوب التي ابتليت بالحروب وقدمت التضحيات من أرواح أبنائها ومن استقرارها ومن اقتصادها ومن نهضتها. لكنها لا تقبل بحلول هجينة بل تنشد سلاماً شرعياً ابن أصول.
«الطفل في المغارة وأمّه مريم وجهان يبكيان/ لأجل من تشرّدوا/ لأجل أطفال بلا منازل/ لأجل من دافع واستشهد في المداخل/ واستشهد السلام في وطن السلام/ وسقط العدل على المداخل». لا يسكت صاحب الحق عن حقه. يتوارثه أولاده وبناته وأحفاده. تدوس القوة العسكرية على الحق. إي نعم. تتبجح إسرائيل بأنها «الديمقراطية الوحيدة في المنطقة». حسناً فهمنا. لكن للطغيان حداً وللباطل جولة. تنطلق صافرات الإنذار في تل أبيب وتغلق المتاجر وتفرغ الشوارع ويحل الشلل. تهجر إسرائيل مطارها الدولي وتلتمع صواريخ في سماء اللد وعسقلان وسديروت. تنصح الولايات المتحدة مواطنيها بعدم السفر إلى هناك. يشيّع الغزاويون شهداءهم وهم يغنون: «ناعمة وطريّة القبة الحديدية».
تقول الأسطوانة المكرورة إن فلسطينيين باعوا بيوتهم لليهود. وها هم فلسطينيون يشترونها بالدم. خرج منهم لاجئون أقاموا في الخيام وبقي آخرون في قراهم تحت الاحتلال. وصفهم العرب بالخونة لأنهم اضطروا لحمل هويات العدو. وها هم «الخونة» يخرجون في يافا وحيفا والناصرة واللد ليتضامنوا مع أهلهم في القدس وغزة. يقطع جيش الاحتلال طريق السيارات فيسيرون ساعات على الأقدام للوصول إلى الأقصى والصلاة فيه.
حكى لي زميل يشتغل في إحدى الإذاعات العربية أن هناك، في مكتبة التسجيلات، قائمة بالأغاني الممنوعة من البث. وهي ليست «بوس الواوا» وما لفّ لفّها كما كنت أتوقع، بل «والله زمان يا سلاحي»، و«أصبح عندي الآن بندقية»، و«أخي جاوز الظالمون المدى». لكن الهواتف الصغيرة أذكى وهي لا تعرف الممنوعات. تكبس على الشاشة وتختار ما تشاء. يخترق صوت المغني العراقي عزيز علي سنوات الغياب بكلمات أنشدها قبل أكثر من نصف قرن: «والظلم لو دام دمّر/ يحرق اليابس والأخضر». وهذا الفنان المولود في بغداد قبل 110 أعوام لم يعش لكي يرى مفاعيل الدمار في البلاد لكن نصوص أغنياته التي كان يكتبها ويلحنها بنفسه، تنطبق على زماننا.
إن احتراق اليابس والأخضر ليس قدراً وجودياً لا مهرب منه. يمكن لأجيال عربية آتية أن ترى ما حلمنا به.
جريدة الشرق الاوسط