منذ فترة طويلة، خصوصا بعد أن هيمنت قصيدة النثر على المشهد الشعري في جميع أنحاء العالم العربي، والحديث عن غياب النقد يحتل مكانة بارزة في الجدل الدائر حول الشعر.
وصحيح أن مثل هذا النقد نادر، بل يكاد يكون منعدما في البعض من الأوقات، لكن التنظير هو الأكثر غيابا، والأشد انعداما. وأعني بالتنظير ذاك الذي ينجزه الشعراء أنفسهم ليوضحوا من خلاله رؤيتهم للشعر، وخصائصه، ومكوناته، وتأثيراته، ويبلوروا أفكارا جديدة لم يألفها أحباء الشعر من قبل.
ونحن نعلم أن أهم التيارات الشعرية الحديثة، لم يواكبها كبار النقاد فقط، بل وحظيت أيضا بدراسات نظرية ونقدية من قبل من تزعموا هذه التيارات، ومن لعبوا دورا أساسيا في فرض ما كان غير مألوف في الكتابة وفي الذائقة الشعرية. ونحن نجد أدلة كثيرة على ما نقول.
في القرن التاسع عشر مثلا، كتب بودلير رائد الحداثة الشعرية في الغرب الأوروبي، العديد من النصوص التي عكست رؤيته للشعر الجديد الذي أخذ في البروز بعد أن ذبلت زهرة الرومانسية، وفقدت رونقها لتولد القصيدة الجديدة في المدينة الكبيرة حيث العنف والصخب والجريمة و”أزهار الشر”.
الشاعر المجدد هو الذي يكون واعيا بوضعه، وبمكانته في المجتمع. ووعيه بذلك يخول له إعداد “الأسلحة” النظرية للدفاع عن نفسه، وفرض أفكاره خصوصا
ووصف ستيفان مالارميه، وهو أيضا من كبار المجدّدين في الشعر الفرنسي، والغربي عموما، القصيدة بأنها “التفسير الحلمي للعالم”، ملحّا في كتابته النظرية، وفي رسائله على أن دور الشاعر هو “بلوغ أقاصي اللغة” حتى ولو أفضى ذلك إلى “البياض”.
ولم يكتب تي.أس. إليوت فقط روائع شعرية مثل “الأرض الخراب”، أو “أربعاء الرماد”، أو “أغنية حب لجي. ألفريد بروفروك”، بل كتب أيضا مئات الدراسات جمعت في أربعة مجلدات عن الشعر والشعراء من القدماء ومن المحدثين.
وكان إزرا باوند حريصا على مواكبة أعماله الشعرية، وأيضا أعمال مجايليه من الشعراء والروائيين من أمثال جيمس جويس بنصوص نظرية حول الحداثة في الشعر وفي النثر.
وخصص أندريه بروتون العديد من البيانات والنصوص لتوضيح مفاهيم السوريالية، ومواقفها من العديد من القضايا المتصلة لا بالكتابة فحسب، ولكن بالسياسة وبالمجتمع، وبالدين وغير ذلك.
ونحن نجد بين شعراء الحداثة العربية من أنجز نصوصا وكتبا نظرية مهمة حول الشعر، وحول مكانة الشاعر في المجتمع.
وهذا ما نتبيّنه من خلال كل من أبي القاسم الشابي في “الخيال الشعري عند العرب”، ونزار قباني في كتابيه الرائعين “الشعر قنديل أخضر”، و”قصتي مع الشعر”، وأنسي الحاج في “خواتم”، وأدونيس في “زمن الشعر”، وفي العديد من مؤلفاته الأخرى، ويوسف الخال في جلّ نصوصه التي نشرها خلال توليه رئاسة تحرير مجلة “شعر”، ومحمد بنيس في أطروحة الدكتوراه التي أنجزها عن الشعر العربي الحديث، وأيضا في مجمل كتاباته النثرية التي يحتل فيها التنظير حول الشعر مكانة بارزة. أما بالنسبة إلى أصحاب قصيدة النثر فنحن لا نكاد نجد بينهم من أولى ولو القليل من الاهتمام بالتنظير حول الشعر.
وفي حواراتهم هم يقتصرون على الدفاع عن أنفسهم من دون أن يقدموا ما يدل على أنهم يمتلكون رؤية واضحة لمفهومهم للشعر، وللكتابة، وللحياة بصفة عامة. ويعود ذلك إلى أساب عدة؛ أولها أن التنظير حول الشعر يحتاج إلى ثقافة واسعة تشمل كل أنواع المعرفة.
وهذا ما تعكسه المؤلفات النظرية للشعراء الغربيين، وأيضا للشعراء العرب. فنحن نعاين أن هؤلاء يستندون إلى مصادر عظيمة لا في مجال الشعر فحسب، بل وأيضا في مجال الفلسفة، والعلوم، والرواية، والسينما، والفنون التشكيلية وغيرها. وهذا ما يفتقده شعراء قصيدة النثر باستثناء عدد قليل منهم يعدون على أصابع اليد الواحدة.
أما الأمر الثاني فهو أن الشاعر المجدد هو الذي يكون واعيا بوضعه، وبمكانته في المجتمع. ووعيه بذلك يخول له إعداد “الأسلحة” النظرية للدفاع عن نفسه، وفرض أفكاره خصوصا إذا ما كان المجتمع الذي يعيش فيه رافضا له، ولها أيضا. ولكن يبدو أن شعراء اليوم في عالمنا العربي لا يولون مثل هذا الأمر، أي الوعي بوضعهم وبمكانتهم في المجتمع، الاهتمام الجدير به مكتفين بالتذمّر، والشكوى، ومعتقدين أن كتابة قصائد نثرية قد تكون كافية لكي يكونوا شعراء “مجددين” بالمعنى الحقيقي والجوهري للكلمة.
صحيفة العرب