آلمني كثيراً الخبر الذي قرأته عن غزلان الريم النادرة في العراق. يقول الخبر إن هذه الغزلان تهلك بسبب الجوع والظمأ الذي يهددها بالانقراض نتيجة الجفاف وانقطاع موارد الغذاء، حيث يبحث ما تبقى منها في محمية ساوة جنوب البلاد عن شيء يأكله بعد هلاك لحق بها وأدى إلى انخفاض أعدادها، فالأمطار كانت شحيحة هذا العام، وكذلك كان الدعم الحكومي بالأعلاف الضرورية لبقائها. ويرتبط غزال الريم تاريخياً بالصحراء العراقية التي هي موطنه الأصلي، فضلاً عن توزعه في مناطق أخرى من العالم، مثل ليبيا ومصر والجزائر.
تأملت الخبر وتألمت كثيراً…
تذكرت يوم أن كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يقف في شرفة قصره ببغداد، ينظر إلى السحابة تمر أمامه، ويقول لها: أمطري حيث شئت فإن خراجك سيأتيني.
تأملت الخبر وتألمت كثيراً…
تذكرت يوم أن وفد الشاعر العباسي علي بن الجهم إلى بغداد، وكان بدوياً قاسياً فظاً جافاً، وكيف أحالته عاصمة الخلافة الإسلامية وحاضرة الدنيا وقتها، إلى شاعر يذوب رقة ولينا وعذوبة، فأنشد:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
تأملت الخبر وتألمت كثيراً…
تذكرت أن العراق يضم أكثر من 50 نهراً، بين كبير وصغير، فكيف تعاني غزلان الريم فيه من الجوع والعطش، وهو الذي طالما أطعم بلاد الدنيا وسقاها من خيره، عندما كان خيره يكفيه ويفيض عنه؟!
تأملت الخبر وتألمت كثيراً…
فالسحابة التي كانت ذات يوم تمر أمام هارون الرشيد، وهو واقف في شرفة قصره، لم تعد تعرف سماء العراق، وهارون الرشيد نفسه لو خرج من قبره لما عرف العراق الذي يراه أمامه، وهو الذي رحل عنه موفور العافية، يطعم الدنيا ويسقيها ويدير شؤونها.
تأملت الخبر وتألمت كثيراً…
فعيون المها، التي تغنى بها ذلك الشاعر البدوي الذي ألانته بغداد برقة أهلها، غارت في محاجرها بعد أن قتلها الجوع، وأنهكها الظمأ، ولم تعد بغداد تلك المدينة التي عرفها علي بن الجهم وشعراء عصره.
تأملت الخبر وتألمت كثيراً…
فالعراق الذي طالما كان ملجأ الفارين من الجوع أصبح يعاني اليوم من الجفاف، حتى لم تعد غزلانه قادرة على العيش في صحرائه التي غدت قاحلة.
تأملت الخبر وتألمت كثيراً..
فالعراق الذي طالما روت أنهاره البشر والحيوان والشجر، تعاني غزلانه اليوم من الظمأ، وتتناقل أخبار نفوقها العربان في كل مكان.
تأملت الخبر وتألمت كثيراً…
تأملت أرض السواد كيف أصبحت خالية من السواد، وهي التي كانت سلة غذاء قاصديها من كل أصقاع الدنيا، تستقبلهم حقولها الخضراء ومروجها الرحبة فاتحة لهم ذراعيها مثلما هي قلوب أهلها وساكنيها.
تأملت… وهل يفيد التأمل عندما يطغى الألم على الأمل؟
لا تقل لي هذا هو سؤال العاجزين عن الفعل المستسلمين لليأس، فلطالما كان العراق عبر التاريخ مبعث الأمل ومكمن الفعل، رغم كل المآسي التي حلت بأرضه، ورغم كل الفتن التي حاقت بأهله، ورغم كل السحب التي لبّدت سماءه، ورغم كل الغبار الذي أثارته سنابك الخيل التي جرت على أرضه عبر العصور السومرية والأكادية والبابلية والأشورية والساسانية وحتى فتْح المسلمين له في القرن السابع الميلادي، وإلى أن أصبح مركز الدولة الإسلامية في عهد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، رغم الفتنة الكبرى التي ألمت بالمسلمين في تلك الفترة العصيبة من تاريخهم، قبل أن يشهد عصره الذهبي في عهد الدولة العباسية، عندما أصبح مركز الحضارة ومقر دار الحكمة، ثم غدا بعد ذلك هدفاً للبويهيين والسلاجقة والأتراك والمغول والعثمانيين والصفويين والمماليك وغيرهم من الغزاة الطامعين، لينتهي به الحال بعد الحرب العالمية الأولى محتلاً من قبل الإمبراطورية البريطانية، ثم متحرراً من الاستعمار مساهماً في الإعمار.
تاريخ طويل موشّى بالفعل المؤثر في مسيرة البشرية والحضارة الإنسانية، لا يمكن أن يمحوه ظرف عابر، كثيراً ما تعرض العراق لمثله واستطاع أن يتغلب عليه بإرادة أبنائه وعزيمتهم، وبقدرتهم على قراءة الحاضر وربطه بالماضي للانطلاق نحو المستقبل. فما حدث في العراق العظيم خلال العقود الأخيرة لا يمكن فصله عما حدث له عبر السنين الغابرة من تاريخه، وما يحدث فيه اليوم ربما كان بداية لما ينتظره من انفراج يعيده إلى مساره الصحيح، كي يعود قوياً وفاعلاً ومؤثراً، مستقلّ القرار مثلما كان دائماً.
سوف تبقى عيون المها في العراق جلابةً للهوى. لن تهلك من الجوع والظمأ، طالما كان في العراق شعب وفيّ لا يبيع الوطن بأي ثمن
عيون المها جلّابة الهوى – بقلم علي عبيد الهاملي
جريدة البيان