تمرّ هذا الشهر ذكرى ولادة غسّان كنفاني. اغتيل في بيروت بعبوة ناسفة زرعها تحت سيارته قاتل مجهول معلوم. وهو لو عاش لكنا احتفلنا ببلوغه الرابعة والثمانين. وفي الصيف المقبل ستحل ذكرى معارك سبتمبر (أيلول) في الأردن. خمسون عاماً مرّت على تلك المأساة التي تقاتل فيها الإخوة الأعداء. صار اسمها «أيلول الأسود». لون يجلّل أحداثاً عربية كثيرة. وفي الشهر ذاته سيكون قد انقضى نصف قرن على رحيل عبد الناصر. وعزلة «كورونا» مفيدة لكي يبري المعلقون أقلامهم استعداداً للمناسبة.
أجريت، في بداياتي، مقابلة مع كنفاني بمكتبه بمجلة «الهدف» في بيروت. كان ذلك في صيف 1971. قبل عام من اغتياله. قرأتُ «رجال في الشمس» و«عائد إلى حيفا»، وذهبت لأقابل الروائي، لا المناضل. عرفت منه أن له ثلاث روايات جديدة، اكتملت واحدة منها، وفي طريقها للنشر. حكاية عن رجل أعمى قيل له إن هناك شجرة نبت في أعلاها رأس لأحد الأولياء. لقد حدثت تحتها معجزات كثيرة. ويقرر كفيف البصر أن يقصد الشجرة على أمل استعادة الرؤية. وهناك يلتقي برجل أطرش جاء يرجو استعادة السمع. ويتعاون الاثنان للوصول إلى رأس الولي. يتسلق الأعمى كتفي الأطرش ويمد يديه يتحسس الرأس. إن حاسة اللمس لديه قوية. والكرة التي ظنها الجميع ولياً يصنع المعجزات ليست سوى كتلة فقع كبيرة.
قال غسّان: «اللحظة التي يكتشف فيها الرجلان تفاهة الوهم الذي أضاعا جهداً كبيراً في تصديقه، هي لحظة أشبه ما تكون بلحظة الخامس من يونيو (حزيران) 1967. عندما ظهر للجماهير العربية زيف نظرياتهم السابقة». سألته لماذا لم ينشر الرواية حال الانتهاء من كتابتها، بعد النكسة؟ أجاب بأن الجماهير المؤمنة بالمقاومة والمتحمسة لها كانت سترفض تشبيهها برجل فاقد للبصر وآخر مربوط اللسان. فالفرد العربي استقبل الفدائي كرجل أسطوري يملك وحده السير في الطريق الصحيح للعودة.
لماذا قرر نشرها أخيراً، وما الذي تغيّر؟ قال: «إن أحداث سبتمبر (أيلول) 1970 وما تلاها أثبتت أن أي فئة لا تملك شروط النصر لوحدها. إن المقاومة، مهما سَمَتْ، لا بد لها من التعاون لرصف قوة أكبر في مجابهة الأحداث».
تحدّث غسّان كنفاني عن سطحية النتاج الأدبي الغزير الذي حملته الصحف العربية وطرحته دور النشر بعد النكسة. «تيار مبالغ فيه من الرومانتيكية يفتقر إلى وعي عميق لمعنى القضية وأبعادها وحجمها الزمني، جاء به زلزال خمسة حزيران إلى مواقع الحركة. قام رواده يعلنون غضبهم ويصبون سخطهم المرير على الجماهير كلها. إن معظم الذين كتبوا يسبّون القيادات العربية ويمجدون المقاومة يقفون اليوم مذهولين أمام توالي الأحداث فائق السرعة، وهم لا يعرفون ماذا يقولون. أنا، مثلاً، لا أحبذ أن يشتمنا شاعر كنزار قباني. إنه يوجّه لومه للجميع، بينما لم تكن كل الفئات مسؤولة ذات المسؤولية. وبما أن للكفاح أشكالاً عديدة، فإن دور الفنان أكثر تعقيداً وخطورة. لذا لملم الكثيرون حناجرهم وانقلبوا إلى الكتابة في مواضيع أخرى».
تحدثنا عن روايتيه المذكورتين. قال إنه يحاول أن يوصل صوته للناس ولا يعبأ برأي النقاد الذين لم يستقبلوهما بالتهليل. «بصراحة، نحن نكتب لعدد قليل من الأصدقاء والنقاد من قرائنا، لهذا نفتعل التعقيد لنقول لهم بأننا قريبون من عتبات الأدب العالمي. وأنا نفسي حاولت في كتابي (ما تبقى لكم) عرض عضلاتي فقط، وهذا ليس صعباً، إنما الصعب هو التعبير عن الأفكار العميقة ببساطة يتقبلها الناس».
جريدة الشرق الأسط