سيل من الكتب قذفت بها المطابع إلى السوق، بعضها ولد ميتاً وبعضها الآخر عاش قليلا من الوقت ثم اختفى، وبعضها أثار المعارك وظل عالقاً في مفاصل الثقافة جيلاً بعد جيل.
بعضها ولد ميتاً من دون أي انتباه. بعضها قُرئ كالطعام البائت. بعضها لا يزال يلاحقنا حتى اليوم. بعضها مر بسلام إلى القارئ، وبعضها عانى المنع والرقابة، وملاحقة أصحابها من الكتاب.
وأما الكتب التي تبقى فإنما هي تلك التي تثير السؤال الفلسفي، وتشوش الطمأنينة الخاطئة في المجتمع وفي داخل القارئ، وبالتالي تعاني سيف الرقيب.
في جميع بلدان العالم هناك رقابة، لا ملائكية في منطق الأنظمة السياسية مهما كانت هذه الأنظمة، وعين الحاكم لا تنام.
لكن شكل وحجم وطبيعة الرقابة في العالم المتقدم حيث تراعى حقوق الإنسان، وتتم حماية الحريات الشخصية والجماعية، تختلف كلية عمّا يحدث في البلدان العربية والمغاربية.
إن منظومة الرقابة على الإبداع والفكر في البلدان المتقدمة، قائمة على مسطرة قانونية واضحة المعالم، من خلالها يحدد سقف الحرية الفردية والجماعية، بما لا يتعارض وحقوق الإنسان في المعرفة والإبداع والاختلاف، وهي مِسطرة تسمي الأشياء بمسمياتها وتحددها شكلاً ومضموناً، ولا يوجد فيها خلط ما بين الجنائي والسياسي والمعتقدي. أما في العالم العربي والمغاربي فهناك غياب واضح لقانون النشر، وإن وجد فهو قانون تسكنه ضبابية واضحة ومقصودة.
من يا ترى يحرك ذراع السلطان على الكاتب؟
هل الناس تقرأ إلى هذه الدرجة التي تجعل السلطان يخشى على سلطته من جيوش القراء الذين يقرأون الكتب، وبالتالي يتأثرون بها؟
إن قرار الرقابة والمنع في البلدان العربية والمغاربية لا يكون من قبل أجهزة قضائية بعينها، بل إن تحريك قضية المنع يكون عادة على خلفية تحريض العامة للخروج ضد “كتاب” ما، أو للتنديد بـ”كاتب” ما، وفي أغلب الأحيان يتم تهييجها من قبل أحزاب أو جمعيات سياسية ترغب في التموقع السياسي من خلال معاداة “الثقافي” أو “الإبداعي”، وهي بذلك تسعى إلى تحقيق حضور أيديولوجي، وتشكيل ضغط على النظام القائم لإثارة انتباهه، وكأنما تريد أن تقدم خدمة ما، مقابل رد جميل سياسيٍّ، وذلك بالدعوة إلى تحريك سيف الرقيب على الإبداع.
كتب منعت خلال القرن العشرين
ما هي أهم الكتب الفكرية والإبداعية المفصلية في البلدان العربية والمغاربية التي تعرضت للرقابة والمنع خلال القرن الماضي، أي القرن العشرين؟ وكيف كانت الضجة حول هذا الإبداع، ومن كان خلف تأجيج هذا الغضب، وفرض المنع على هذه الكتب؟
المرأة والمساواة سر الرقابة والمنع
لعل أول الكتب الممنوعة والتي شكلت نقاشاً حاداً، ولا يزال مستمراً حتى اليوم، بين النخب السياسية والثقافية والحقوقية، إنما هي تلك الكتب التي تناولت مسألة حرية المرأة، وحقها الإنساني في التصرف بجسدها وعقلها ومالها، وحقها في الخروج إلى سوق العمل، وحقها في طلب العلم بعيداً من رقابة الذكورية العربية والمغاربية التي تنتمي إلى زمن الفروسية. بمجرد أن بدأت هذه الكتب في الظهور مرافعة عن حق المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، انبرى لها حراس المعبد في القلاع الثقافية والفكرية والسياسية والدينية، مستعملين مفاهيم ومصطلحات تحريضية كثيرة كـ”التخوين” و”التهويد” و”التكفير”.
إن وجود المرأة في المجتمع كقيمة إنتاجية إنسانية مستقلة، هو من يحدد سلم تطور أو تخلف هذا المجتمع أو ذاك، ولقد ظل أعداء المساواة بين الرجل والمرأة، يختفون خلف عكازات فكرية، يستحضرونها من الكتابات التراثية السلفية، ومن بعض التأويلات الدينية التي يخرجونها من سياقها التاريخي والحضاري، وإقحامها في فضاء زماني وحضاري وصراعي مغاير تماماً.
إن الدعوة إلى فكرة المساواة هي في حد ذاتها دعوة إلى تقاسم السلطة، وتقاسم المال وتقاسم الهواء وتقاسم الفضاء العمومي وتقاسم اللغة وتقاسم الخطاب، وهو ما لا يريده الفكر الذكوري الذي تأسس على قمع صوت المرأة واعتبارها “عورة” يجب إدخالها في قوقعة “الحلزون” أو “السلحفاة”. وحاولوا محاصرة المرأة باتهامها في صحة عقلها، فهي في عيونهم “ناقصة عقل”، ومحاصرتها في جسدها الذي هو ملكيتها الخاصة، بأن أصبغوا عليه صفة الـ “عورة”.
انطلاقا من هذا الواقع، عرف القرن العشرون أكبر ضجة فكرية ثقافية كان سببها صدور كتاب “تحرير المرأة” لقاسم أمين، الذي صدر العام 1899، وسيبدأ العالم العربي حوارات القرن الجديد على وقع كتاب معركة كتاب “تحرير المرأة”. ويعد هذا الكتاب من الكتب الأكثر جدلاً، بحيث أن ما كتب عنه، معه أو ضده، أي من المناصرين ومن الخصوم، يفوق عشرات المرات حجم الكتاب، وقد اتهم الكاتب بالخيانة وبالعمالة للإنجليز، وهي التهم الجاهزة التي يخرجها أعداء الاجتهاد في كل المناسبات، ويمكن تصنيف الكتاب ضمن الكتب العشر التي أثارت النقاش وحركت القراءة، وغيرت من القناعة الفكرية لمجموعات اجتماعية كثيرة.
ويجيء كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” للكاتب التونسي طاهر الحداد (1899- 1935) المولود في العام الذي صدر فيه كتاب “تحرير المرأة” لقاسم أمين. إن كتاب طاهر الحداد صورة عن الاجتهاد الفكري المغاربي في باب ترقية وضع المرأة والدفاع عن حقوقها المدنية والسياسية، ولعل تونس منذ الطاهر الحداد وهي سباقة في طرح مسألة المساواة بين الرجل والمرأة، وآخرها مشروع المساواة في الإرث الذي اعتمد في تونس في العام 2018، وكذلك حق المرأة التونسية المسلمة في الزواج من غير المسلم.
اتهمت القوى السلفية والظلامية في تونس الكاتب طاهر الحداد بالزندقة والإلحاد، وتم تجريده من شهاداته العلمية، ومنعه من الزواج، ومنعه من العمل. ولكن طاهر الحداد لم يتراجع عن مواقفه على الرغم مما عاناه من عزلة وتهميش، بل كتب عقب هذه الضجة كتاباً حول “إصلاح التعليم الزيتوني”، لأنه كان يعتقد بأن سبب تخلف تونس هو غلق باب الاجتهاد الذي يمارسه سدنة الفكر السلفي.
وبينما ظل النقاش والحوار والاختلاف تحت مظلة الإسلام بين النخب المصرية حول كتاب “تحرير المرأة” لقاسم أمين، فقد اتخذ النقاش في تونس بعداً نقابياً وفلسفياً وتربوياً، وهو ما أهّل تونس أن تكون رائدة في قضايا حقوق الإنسان والمرأة في العالم العربي والمغاربي حتى الآن، وربما يعود الفضل في ذلك إلى كتاب طاهر الحداد الذي تم استثماره في مجلة الأحوال الشخصية بتونس العام 1956، وفيها أعيد الاعتبار له وللأفكار التي دافع عنها.
باب التفكير الفلسفي
أما في باب كتب التفكير الفلسفي، فالفضاء العربي والمغاربي يبدو شحيحاً من حيث الإنتاج، إذ يجب الاعتراف بندرة الكتاب الفلسفي المتميز، وبقلة هذا النوع من الكتب ويجب الاعتراف أيضا بوجود حس سياسي وديني يعادي الفلسفة أو يتجاهلها لا لشيء إلا لأنها تمثل “العلم المزعج”.
فمنذ أن هزم كتاب “تهافت الفلاسفة” لأبي حامد الغزالي (1058- 1111) كتاب “تهافت التهافت” لابن رشد (1126- 1198)، فما عدنا نقرأ سوى الشريعة باسم الفلسفة، وبالتالي طغت السلفيةُ على العقلانية، وهزمت الدروشةُ التنوير في واقع مثل هذا، بهذا التوصيف، حيث أُريد للدين أن يعوّض العلم، ويعوّض الرياضيات ويعارض الفيزياء والطب.
كما يعتبر كتاب “نقد الفكر الديني” الصادر العام 1969 للفيلسوف صادق جلال العظم (1934- 2016)، من العناوين التي أثارت ضجة ونقاشاً فكرياً كبيراً حول نقد المؤسسة الدينية، وتأصيل التنوير والعقلانية وحرية التفكير، وهو الكتاب المؤسس بشكل واضح على رؤية علمانية، تدعو إلى فصل الدين عن الدولة والدفاع عن المواطنة كقيمة مشتركة بين الجميع، وقد حكم على الكاتب بالسجن إثر صدور الكتاب وقد اتهمه خصومه بالإلحاد.
وفي هذا الإطار نفسه يمكن تصنيف كتاب “الثالوث المحرم –دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي” للمفكر بوعلي ياسين (1942-1973)، ضمن الكتب التي ظهرت في القرن العشرين وأثرت بشكل واضح في القراءة، وفي شكل سؤال الوجود ومضمونه، وكأنما جاء ليعيد عقلانية ابن رشد إلى المعرفة، وليبعث نبض العقل في الفلسفة، وليناوش مسلمات الشريعة وأجوبتها المطمئنة.
وفي النقد الأدبي والحضاري، فإن كتاب “في الشعر الجاهلي” لطه حسين الصادر العام 1926، يعدُّ الأرضية الأولى لنقد عقلاني للعلاقة “التقديسية” و”المثالية” التي تجمع العرب بتراثهم. لقد حاول طه حسين نقد فكرة “المقدس” وجعل كل شيء قابلاً للسؤال والمراجعة المستمرة، ووضع الكتاب أصبعه على الخلل الفكري الذي تغرق فيه النخب العربية التقليدية، بحيث حولت “المدنس” إلى “مقدس”، وبالتالي أغلق باب الاجتهاد في الأدب وقراءة التاريخ، وحورب “السؤال” وتم تكريس “الجواب” الجاهز والمستورد من نصوص أصبحت فاقدة الصلاحية الفكرية والاجتماعية والإنسانية والسياسية.
وقد عرف هذا الكتاب ضجة كبيرة، وشنت على الكاتب حروب من كل الجهات، وطالب البعض بإعدام صاحبه وطرده من الجامعة، والبعض الآخر نادى بسجنه. وقد تمت مصادرة الكتاب، وطلب من صاحبه حذف بعض الفقرات التي تمس التراث والدين، وقد استجاب طه حسين للمحكمة، وحذف بعض الفقرات وصدر الكتاب تحت عنوان جديد هو “في الأدب الجاهلي”.
ولكني أعتقد بأن كتاب “مقدمة في فقه اللغة العربية” الصادر العام 1981 للويس عوض (1915-1990)، هو واحد من الكتب المثيرة، والتي بصمت وجودها في القرن العشرين لدى القارئ المتخصص والقارئ العادي، وهو أهم كتاب ناقش تاريخ اللغة العربية بمنظور حديث وجريء أيضا، حيث وقف على علاقة اللغة العربية باللغات الأخرى، وهاجم التيار “النّقَوِي” في اللغة العربية، هذا التيار الذي يعتبر أن اللغة العربية هي في حد ذاتها تعد “إعجازاً”، وبالتالي يسقط أصحاب هذا التيار فكرة الإعجاز من القرآن على اللغة التي جاء بها القرآن. الكتاب ليس لغوياً محض كما يبدو من عنوانه، بل هو موسوعة فكرية وحضارية وتاريخية، ويعتمد على الجرأة في الطرح، والوقوف عند المسكوت عنه في التاريخ العربي والإسلامي. وقد أثار الكتاب ضجة كبيرة في الجامعة قادها التيار السلفي في الأزهر، مما دفع بالمحكمة إلى مصادرة الكتاب. وأعتقد أن كتاب “مقدمة في فقه اللغة العربية” للويس عوض على أهميته الكبيرة لم يُقرأ بالشكل المطلوب، وهو كتاب الساعة.
باب الإبداع
منذ كتبت نازك الملائكة قصيدتها “الكوليرا”، لم تتوقف مدافع الهجوم على الشعر الحر وشعر التفعيلة، معتبرين هذا الاجتهاد في الكتابة غلواً واعتداء على التراث وتنكراً له وانقلاباً عليه، وبالتالي مؤامرة ضد اللغة العربية وضد الإسلام.
ولأن الشعر في المخيال العربي، يعتبر ديوانهم الأول وربما الأخير، فقد ظلت عيون الرقيب لا تنام، إلا أن يجيء شاعر سيثير زوبعة في القراءة، وفي عادات القراءة، وفي بنية الأحاسيس العربية تجاه المرأة بالأساس، إنه الشاعر نزار قباني، وربما يكون ديوانه “طفولة نهد” الصادر عام 1948، الكتاب الشعري الذي فتح الشعرية العربية على جرأة إنشائية لم يسبق إليها. ويكون بذلك قد عبّد الطريق أمام القول المفتوح على الحرية الفردية، وعلى تحرير الإحساس من الكبت، وعلى إدانة المجتمع الذكوري. وضمّنه دعوة إلى استعادة المرأة لملكيتها لجسدها الذي صادرته القبيلة واغتصبته.
وأعتقد بأن مجد نزار قباني الشعري تأسس على ديوان “طفولة نهد”، وأنه الكتاب الشعري الذي غيّر في علاقة الشاعر بالقارئ، وبه أدخل القصيدة العربية في تفاصيل يومية وجسدية هامشية، لكنها حاضرة في المجتمع العربي.
وأما في باب الإبداع السردي، فهناك روايات كثيرة أثارت جدلاً كبيراً بعد صدورها، وخلفت جيشاً من القراء المتخصصين أو العامة من المؤيدين كما من الناقمين. لقد تعرضت نصوص روائية إلى المنع في هذا البلد أو ذاك، ولكننا نعتقد بأن هناك روايات أسست للممانعة السردية، وعلى رأسها رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ (1911-2006) الحائز جائزة نوبل للآداب العام 1988، وقد صدرت الرواية العام 1968، وتمت الإشارة إليها والتنويه بها عند منحه جائزة نوبل للآداب، وقد منع نشرها في مصر حتى أواخر العام 2006، وصدرت في طبعتها الأولى بدار الآداب ببيروت، وهي الرواية التي عاد فيها إلى سير الأنبياء في كتابة البحث عن قيم الحق والعدل والمساواة الغائبة عن المجتمع العربي بشكل عام.
شن شيوخ الأزهر هجوماً على الرواية، ومنع نشرها في كتاب في مصر، كما منع استيرادها بعد صدورها في بيروت، على الرغم من أنها صدرت في سلسلة حلقات بجريدة الأهرام. وكما هي عادة السلفيين فالتّهم لديهم جاهزة، إذ كُفِّر نجيب محفوظ على إثر كتابته “أولاد حارتنا” واتهم بالزندقة والإلحاد.
ومن الروايات التي سجلت حضوراً مثيراً في القرن العشرين، وظلت عالقة في الذاكرة الجماعية الأدبية رواية “الخبز الحافي” للروائي المغربي محمد شكري (1935-2003)، كتبها العام 1972 ونشرت أولاً مترجمة إلى الإنجليزية ثم الفرنسية لتنشر بالعربية لغتها الأصلية في العام 1982. وهي رواية في تحليل سيكولوجية “المستعمَر” وأيضا في البحث عن “قتل” الأب، واعتماداً على السيرة الذاتية نكتشف رواية في بنية العنف الداخلي. رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري على الرغم من المنع الذي لحقها، تعد من النصوص الأولى التي أسست لقراءة مغايرة للسرد المغاربي بالعربية، كما أنها كانت الرواية المغاربية الأولى التي أسست للصوت السردي المغاربي في الأدب الروائي العربي الحديث والمعاصر. ولا تزال الرواية تقرأ بشكل مستمر وبكثير من الإعجاب، على الرغم من مرور نصف قرن على كتابتها.
كما أن رواية” وليمة لأعشاب البحر” للسوري حيدر حيدر الصادرة في العام 1984 والتي كتبها أثناء إقامته كأستاذ بالجزائر إذ قدم إليها العام 1970. تعد رواية “وليمة لأعشاب البحر”، نصاً حقق حضوراً كبيراً في القراءة والنقد في العالم العربي والمغاربي. إنها الرواية التي أحدثت انقلاباً في “جملة” الكتابة السردية، مستثمرة في الشعرية والفانتاستيك الحكائي. ونظراً إلى حضورها المتواصل والمؤثر، وبعد مرور أكثر من ربع قرن على نشرها، خرج شيوخ الأزهر وأتباعهم في مظاهرات بالقاهرة مطالبين بمنعها وبإنزال القصاص بكاتبها متهمين إياه وكالعادة بالزندقة والإلحاد.
الخاتمة
أعتقد أن هذه العناوين العشرة التي مثلت هزة نوعية في الكتابة والقراءة والنقاش في القرن العشرين الثقافي العربي والمغاربي، وتعرضت جميعها للمنع أو الرقابة أو المصادرة، فإن اليد التي منعت أو سجنت أو قمعت هذا المفكر أو ذاك الأديب هي يد سياسية، إلا أن المحرك الديني يظل هو الأساس لأي تهييج وتحريض على المنع.
INDEPENDENT