الكثير من الشعراء والنقاد وحتى الأكاديميين تحولوا إلى كتابة الرواية، كل بنفسه الخاص ورؤيته التي يسعى من خلالها إلى ترسيخ بصمته في هذا الجنس الأدبي المفتوح. وإن قوبل الكثير منهم بالنقد وحتى بالتضييق، فإن آخرين أضافوا للرواية الكثير. وهذا ما يؤكده الناقد والكاتب السوري عزت عمر الذي التقته “العرب” في حوار حول رؤاه للرواية كتابة ونقدا.
مسيرة حافلة بالإبداع القصصي والروائي والنقدي قطعها الكاتب السوري عزت عمر ولا تزال تواصل عطاءها، قدم خلالها نحو 20 رواية ومجموعة قصصية شكلت خصوصية آفاق رؤيته للعالم، كما خط العديد من الكتب النقدية التي رصدت تجليات الحداثة في القصة والرواية والشعر عربيا، ليتمكن من الموازنة بين الإبداع والنقد دون أن يطغى أحدهما على الآخر، وأيضا من تحقيق مكانة متميزة داخل المشهد الثقافي العربي.
كان أول اشتغال عمر بالبحث التاريخي والتراثي حين قدم للمكتبة العربية كتاب “رسالة دعوة الأطباء” للفيلسوف الطبيب ابن بطلان، ثمّ كتب روايته الأولى التي نشرت في ملحق مجلة الخليج في مطلع التسعينات، كما توجه للطفل ليكتب له، لتتوالى إبداعاته رواية وقصة ونقدا، فضلاً عن اشتغاله بالكتابة الصحفية.
النقد والرواية
بداية يؤكد عزت عمر أنه لم يفكر بالكتابة النقدية ولا بأن يكون ناقدا، لكن الصدف وخلو الساحة من النقّاد المجددين فتحت أمامه المجال، وهذا جانب من الأمر، أما الجانب الثاني فهو الاشتغال على الذات بالاطلاع على كلّ ما صدر بالعربية من كتب نقدية بمناهجها المتعددة، وساهمت الثقافة الشخصية والبصمة الإبداعية الخاصّة في تعزيز مكانته النقدية.
ويضيف “نشرت مؤخّراً مجموعة قصصية بعنوان ‘غريق في نهر افتراضي’ وأظنّ أنها قدّمت جديداً في مجال القصّة التي يمكن تحويلها إلى رواية، ولا أخفي عليك أنني سأنشر قريباً رواية ‘مولود الأرجوان’، فضلاً عن الكتب النقدية، وقد صدر مؤخراً كتابان جديدان أوّلهما ‘رواية ما بعد الحداثة’ تتبعت فيه ظاهرة سردية استجدت مع الانعطاقة الرقمية ودخول بعض المجتمعات العربية هذه المنطقة من الوعي، بل والمساهمة في نحتها كنموذج إنسانيّ متقدّم كما هو حاصل اليوم في دولة الإمارات”.
ويضيف “أما الكتاب الثاني فقد أسميته ‘النصّ المسافر/ بحث في أنماط السرد الروائي’ رصدت فيه أهم محطات الرواية التي انطلقت من حضارة ما وأثرت في محيطها القريب بسفرها مع البحّارة والتجّار، وهي رؤية جديدة لأهم الأعمال السردية التي مازالت حاضرة في الوجدان الإنساني، كملحمة جلجامش وأثرها فيمن تلاها من النصوص والإلياذة والأوديسة لهوميروس وسواهما من أساطير الشعوب التي يمكن اعتبارها محطّات سردية ظلّت حاضرة رغم مرور الزمن، وكان لابدّ من تتبع الأعمال السردية التراثية التي انطلقت مع الإسلام والحضارة العباسية وقدمت نماذج سردية تمّ إنجازها في تلك المرحلة المبكرة من وعي العالم بأهمية السرد كفاعلية فكرية وثقافية، وإلى جانب ذلك تناولت الرواية العربية الحديثة في فصل والرواية العالمية في فصل آخر وذلك لتأكيد مقولة أن البشرية ما زالت تكتب نصّها الإنساني غير المكتمل”.
ويرى عمر أن كتابه “رواية ما بعد الحداثة” يسعى إلى الإضاءة على وضع ودور الرواية العربية الآن في عالمنا العربي، يقول “الأمر يحتاج إلى اشتغال بحثي ينتهي إلى نتائج، ولكن أستطيع إخبارك بكلّ ثقة أن هذه الرواية تتقدّم واثقة من نفسها، وقد تمكنت خلال العقود الخمسة السابقة من التموضع في صدر الأجناس الأدبية. أما بالنسبة إلى دورها عربياً فإنها فنّ كتابي راق قبل أن يكون لها رسالة فكرية بعينها، وأظنّ أنه يكفيها من مهمّة تعزيز حضور الثقافة واللغة العربية في هذا العالم المتعولم”.
ويؤكد أنه ليس من أنصار الرواية المسيّسة فـ”الخطاب السياسي” مكانه ليس هنا، والرواية إذ اهتمت بالجانب السياسي إنما لتعكس مؤثرات هذه السياسة على الشخصيات المختارة كنماذج يمكن تعميمها من مثل رواية نجيب محفوظ “يوم قتل الزعيم”، أو “الصخب والعنف” لألبير قصيري أو “حجر السرائر” لنبيل سليمان، و”في بيتنا رجل” لإحسان عبدالقدّوس، فجميعها انطلق من حدث كبير كالاغتيال السياسي، وأثر السياسة على مصائر الشخصيات اجتماعياً وثقافياً وسوى ذلك. ومن هنا فإنّ الرواية هي عبارة عن رصد دقيق لأنظمة التفكير المجتمعية يعبر عنها بواسطة الشخصيات، والنقد بدوره يمكن اعتباره آلة قياس لتطوّر وتقدّم السيرورة الإنسانية التي تمّ تناولها في الرواية، ثلاثية نجيب محفوظ مثلاً وثلاثية البحر لحنا مينه وغيرها من مثل كتابات يوسف إدريس وصنع الله ابراهيم ووليد إخلاصي وغيرهم”.
ويشير إلى أن “الرواية هي وعي كاتبها ولكن قبل ذلك هي فنّ إبداعي لا يمكن الطلب من كتابها أن يلتزموا بأيديولوجيا سلطوية أو ثقافوية معيّنة، كما كان يفعل محمود أمين العالم وغالي شكري في مرحلة ما من التاريخ المصري، وقد بات واضحا الآن لكافة الروائيين أن هذا النمط من المطالبة هو إلزام وليس التزاماً حرّاَ تجاه الوجدان الإنساني لكاتب النصّ، وبذلك لا يمكن التساهل مع الآراء النقدية التي يتّجه خطابها بنمذجة معينة أو معايير مؤدلجة ومضلّلة، ومثال ذلك نقد عبدالعظيم أنيس لأعمال إحسان عبدالقدوس الروائية في كتاب ‘في الثقافة المصرية’. وعلى كلّ حال الرواية العربية الحديثة تجاوزت الطروحات النضالية باستثناء بعض البقع المتشددة هنا وهناك التي مازالت تنضح بلغة الأمس الخطابية”.
اشتغل عزت عمر على أثر الحداثة وما بعدها على النص السردي الإماراتي عبر دراسة صدرت أخيرا في كتاب، وقد لفت قبل الإجابة عن سؤال حول ذلك إلى أنه مقيم في الإمارات منذ ثلاثة عقود، وأحد الأفراد الذين ساهموا في تقدّم هذا المشهد، ويضيف “من هنا فإنني تابعت الأعمال القصصية والروائية في أربعة كتب كان آخرها ‘أثر الحداثة وما بعدها في النصّ السردي الإماراتي’. وباختصار أستطيع القول إن النصّ السرديّ الإماراتي رافق موضوعياً تطوّر الحياة الاقتصادية والثقافية منذ بداية تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة والمنعطفات الكبيرة في حياة المجتمع الإماراتي: الحداثة والتحديث، ثمّ مرحلة ما بعد الحداثة كنظام اقتصادي وثقافي له معاييره وسماته، وقد عبّر عنها النصّ السردي الإماراتي”.
دراسة نقدية
ويتابع “نحن اليوم نشهد ثورة حقيقية في الكتابة الروائية ولاسيما في كتابات المرأة الإماراتية وهذا يدلّ على مقدار الحرية المجتمعية والانفتاح على ثقافات العالم إنسانياً إلى جانب التخصص في الدراسات الأكاديمية العالية ولاسيّما الثقافة الإنجليزية، وفي الخلاصة إن الأدب في الإمارات يمتاز بدخول مناطق وعي جديدة لم تدخلها بعض المجتمعات العربية بعد”.
ويشير عمر إلى أن زحف الشعراء والنقاد على كتابة الرواية طبيعي، إذ طالما تمكّنت الرواية من تصدّر الأجناس الإبداعية فمن حقّ الجميع أن يعبّر إبداعياً سرداً كان أو شعراً، فما الذي يضير المشهد إن انتقل شاعر إلى الإبداع السردي، بل ربّما أظنّ أنه قد يقدّم مقترحات جديدة تفيد السرد وتساهم في تقدّمه مع أنني أعرف نقاداً فاعلين انصرفوا إلى كتابة الشعر للتعبير عن الذات وهذا أيضاً يؤكّد أن الكتابة والتعبير عن الذات حقّ لكل إنسان نلتمسها اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي حتّى إنني كتبت ذات مرّة بأن هذه الوسائل أتاحت لكلّ إنسان أن يكون كاتباً.. ما الذي يمنع؟ إن الانشغال بالكتابة يعني بالنسبة لي دخول منطقة وعي جديدة تختلف جذرياً عن الثقافة الشفاهية.
وحول الرواية السورية اليوم يقول الكاتب “نظرا لإقامتي الطويلة في الإمارات لم أتمكن من متابعة الرواية السورية بتفاصيلها المختلفة، ولكني إلى ذلك تناولت بعض النماذج للجيل القديم من مثل حنا مينه ووليد إخلاصي ونبيل سليمان والجيل الذي تلاه مثل محمد أبومعتوق ونيروز مالك وخليل الرز وخليل صويلح وغيرهم، وأعتقد أن كلّ واحد من هؤلاء الكتاب قدم إضافته الإبداعية ومجموع هذه الإضافات شكّل المشهد الروائي السوري بالرغم مما آلت إليه الأوضاع الصعبة طوال السنوات العشر السابقة”.
ويؤكد عمر أن الرواية السورية شهدت بدورها انعطافة كبيرة نلتمسها في ما صدر مؤخّراً من أعمال فاز بعضها بجوائز كبرى مهمّة كجائزة الشيخ زايد للكتاب والوصول إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، وفي هذا الصدد أعتقد أن هذه الرواية قدّمت مقترحات سردية مهمّة في إطار الرواية العربية والعالمية.
محاربة الجديد
أدب القصة الإماراتية
حول ما يتهدد الرواية العربية اليوم ويجعلها في خطر سواء من مؤسسات ثقافية أو أبعاد وتأثيرات الإنترنت ووسائل التواصل والاتصال، يؤكد عمر أنه لن يهدد الرواية أيّ مما ذكر ما لم يأت زمان جديد وانعطافة جديدة تغيّر أنماط التفكير السائدة، وعندها يمكن القول إن زمان الرواية قد انتهى كما انتهت الأجناس الأخرى من قبل.
ويتابع “أرى العكس في مجتمعات مدن ما بعد الحداثة الذكية فكلّ شخص قد يغامر في هذه التجربة بأنماط غير ملاحظة حتّى الآن، لكنها موجودة لا ينتبه إليها، بمعنى آخر وبتعبير جيل دولوز، لقد انتهى زمان الأشجار وانطلق زمان الجذامير أي الأعشاب المتشابكة الجذور والممتدة عالمياً حتّى إلى القرى النائية في الأقاليم الجغرافية المختلفة، طالما أن ساكنها يحمل الهاتف الذكي ويتواصل مع العالم عبره. إننا نعيش ثورة حقيقية مثلها مثل الثورة الصناعية بل ربّما أهم على صعيد الإنسان وتقدّمه بعيداً كلّ البعد عن ثقافة العسكرة والتسلّح والحروب المدمّرة التي شهدها القرن السابق على أمل أن تعمّ ثقافة السلام والتفاعل بين الثقافات بدل احترابها”.
ويضيف “تأكّد القارئ العربيّ اليوم أن ثمة تحوّلات حضارية على المستوى العالمي قد تمّت، وبخاصة بعدما شرع الكتّاب والمفكّرون في تداول مفهوم ‘ما بعد الحداثة’ نقدياً وتعميمه، وكان النقّاد الطليعيون الذين تداولوا هذا المفهوم في كتاباتهم، قد عانوا من مسألة عدم الفهم والمواجهة الصامتة من زملائهم ومن المشهد الثقافي، أولئك الذين لم ليستوعبوا هذا المفهوم بسبب تفسيره على نحو ميكانيكي، إذ أن ‘بعد’ تعني أحدث أو الأكثر حداثة بمفهومهم البسيط الذي رابض في هذا الحيّز، ولا يريد أحد أن يتعب ذاته في تتبع نشأة المفهوم وتطبيقاته نقدياً على الرواية والشعر والسينما والفن، وليس ثمّة مبالغة في رأينا هذا، لأن المشهد مازال يعاني استعصاء تاريخياً بسبب تسييس المفهوم من قبل جماعات الضغط المؤدلجة”.
ويلفت عمر إلى أن أحد أهم منظّري ما بعد الحداثة هو إيهاب حسن، الذي تناول هذا المفهوم منذ عقود، كوعي مغاير ومتجاوز لنظام التفكير الحداثي، يعني بما يشبه الانقلاب الصاعق الذي، كالعادة، تمّت محاربته من قبل حرّاس اليقين ممن كان لهم موقف مماثل من الحداثة نفسها، كحالٍ نفسية ترتبط برهاب الجديد جريا على عادة القدماء الذين كانوا يعتّقون الملابس الجديدة كي لا يلفتوا انتباه الحسّاد مثلاَ، وقد يبدو هذا المثال بسيطاً، لكنه، في رأيه، يمكن أن يفسّر هذه الظاهرة القارة في المشهد العربي أو المشرقي ربّما، ويعني المشرقي الذي لم يستوعب بعد سيرورة العالم الجديدة وأثر التفاعل الثقافي العالمي عبر انفتاح الحدود أمام السلع والعمالة وتبني قيم جديدة تصدرت فيها المعرفة والاستثمار في العقول.
يقول عزت عمر “اليوم نحن نتبادل الأفكار مع العالم عبر الترجمة الآلية المباشرة كحدّ أدنى، إن لم نقل عبر اللغة الإنجليزية. وقد رافقت الرواية في تطوّرها التاريخي تطوّر الوعي الإنساني، وعبّرت عن هذا الوعي باللغة وفنون القول التي أبدعها الرواة مع مرور الزمن. إن رواة الأمس هم روائيو اليوم يتفننون في إبداع أنماط سردية بما يؤكّد مقولة لوكاتش من أنها ملحمة وجنس غير منته في تكوّنه، وهي ماضية في تطوّرها بما يتناسب وزمانها من أنظمة التفكير والحراكات الثقافية في مجتمع واحد أو مجتمعات تتجاور وتتثاقف”.
صحيفة العرب