عاشقة دبي – بقلم بروين حبيب

بروين حبيب

في حياتي عشقان كبيران: نزار قباني ومدينة دبي، وهما يسكنان القلب متجاورين من دون أن يغار أحدهما من الآخر، بل الطريف أن حبي الأول نزار قباني كان سبب تعرفي على حبي الثاني «دبي».

وتفصيل الحكاية أنني بعد أن أنهيت الماجستير بامتياز عن «نزار قباني»، وكنت موزعة بين التدريس والعمل في تلفزيون البحرين، شاركتُ بسهرة عربية في مسابقة الإنتاج التلفزيوني بالقاهرة عن «نزار قباني» سميتها «شاعر في قلب عصره» وفازت يومها بجائزة النخلة الذهبية، عرض عليّ يومها مدير تلفزيون دبي وكان حاضراً في السهرة أن أعمل معهم فقد كانوا يبحثون عن وجه خليجيّ أسمر يجيد العربية ذي مخارج حروف سليمة لتقديم الأخبار.

ورغم أن دبي كانت في ذلك الحين مدينة صاعدة تراكم الإنجازات، ورغم أنني كنت موزعة بين عملي في التدريس وفي تلفزيون البحرين إلا أنني ترددت. ولم يشجعني على ذلك سوى أمرين، أولهما أن العقد الذي أرسله لي مدير التلفزيون كان تجريبياً ولمدة سنة واحدة، وثانيهما أن الراتب وإن لم يكن آنذاك مغرياً كثيراً إلا أنه كان يغنيني عن توزيع نفسي بين وظائف متفرقة كما كنت أفعل.

وامتد عقد سنة التجريبي سنة 1999 ليغطي واحداً وعشرين سنة من عمر هذا العشق وأصبحت دبي مسقط الروح بعدما كانت البحرين مسقط الرأس وكان لتلفزيونها فضل البدايات.

كان اسم دبي يكبر في العالم ولأني كنت بها أوّل خليجية تقرأ الأخبار رأيت اسمي يكبر معها، وكنت شاهدة عيان على كلّ تحولاتها الكبرى التي قادها سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي،رعاه الله، فبعد عقد من وصولي وفي تمام الساعة 9:09:09 مساءً يوم 9 سبتمبر 2009 كنت مع المجموعة الأولى التي شهدت افتتاح أطول شبكة مترو من دون سائق في العالم، هذا المشروع الذي أزاح عبئاً عن كاهل الموظفين والعمال بتكلفة نقل زهيدة، وكان له أثره البالغ في تنشيط السياحة، وقد أصبح اليوم بعد إضافة خطوط جديدة له شريان الحياة في هذه المدينة التي لا تتعب من التطوّر ويحلو لي أن أسميها «مدينة الأشياء التي لا تتوقف».

وبعد أربعة أشهر من افتتاح مترو دبي شاءت هذه المدينة أن تكبرّني معها في لحظة تاريخية فكنت المقدّمة الرئيسية لحفل افتتاح «برج خليفة» أطول برج في العالم وأعلى ما شيده الإنسان على هذه الكرة الأرضية. لتلفت أنظار العالم إليها وتصبح أرض الأحلام وتغدو فيها الطموحات إنجازاً والرغبات واقعاً.

وتحولت هذه المدينة النائمة على كتف الصحراء إلى خلية نحل لا تهدأ تحضن موزاييك من أكثر من مئتي جنسية يعمل كأوركسترا متناغمة يقودها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بيد تعتز بأصالة قيمها ويد أخرى ممدودة إلى قلب المستقبل.

سنة 2011 تلقيت دعوة لتكريمي عن فئة المرأة الديناميكية في العاصمة الأمريكية واشنطن، وأثناء تنقلي لحضور الفعاليات سألني سائق أجرة: «من تاهيتي من أين جئت؟».

وحين قلت له من دبي، أجابني: «أنت من دبي بالم دبي الشيخ محمد بن راشد».

فلم استغرب ذلك، فمع يقيني أن الحياة في أحيان كثيرة غير عادلة إلا أن المنجز الحقيقي لا بد أن يصل ويحصل على التقدير الذي يستحقه. وحدث أن التقيت صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد صدفة في أحد مطاعم دبي فرويت له ما حصل معي في واشنطن فأخذ بيدي إلى طاولة ضيوفه وكانوا مستثمرين صينيين يومها لأروي لهم الحادثة.

ولا تقتصر إنجازات دبي على الجوانب الاقتصادية فقط بل أولى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الثقافة اهتماماً كبيراً وأكرم المثقفين وكرّمهم ولا أنسى طرفة قالها لي شاعر عربي يوماً: نحن الشعراء متعوّدون على الاجتماع في المقاهي وأحياناً في السجون فأخشى أن نتعود على هذا الدلال وهذه الفخامة في دبي ثم لا نقدر على التأقلم ثانية مع بلاوينا القديمة.

وإذا كان يصعب أن أعددّ ما قدمته هذه المدينة المعطاءة للثقافة والفكر فلا أقل من ذكر بعض المحطات التي أكرمتني دبي أيضاً بأن أكون جزءاً منها فلا يغيب عن البال «مهرجان دبي الدولي للشعر» تحت شعار «ألف شاعر، لغة واحدة» واستضاف على مدى خمس سنوات ألفاً من شعراء العالم كان منهم الكاتب والشاعر النيجيري ويلي سوينكا الحائز على جائزة نوبل سنة 1986.

ولا يمكنني أن أغفل اهتمام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد باللغة العربية وتطويرها وتسخير جميع الوسائل الممكنة لترقيتها ومن ذلك مبادرة «ميثاق اللغة العربية» سنة 2012 وقد تشرفت بأن كنت عضواً في اللجنة الثمانية التي أشرفت على تحضير هذا الميثاق وكان رئيسها الفخري العالم المصري فاروق الباز ومن أعضائها وليم غرانارا مدير برنامج اللغة العربية بجامعة هارفارد والمرحوم فاروق شوشة صاحب «لغتنا الجميلة»، ومن نتائج هذا الميثاق أنه أطلق جائزة مهمة للغة العربية.

ومن المبادرات الجديرة بالتثمين كذلك «مؤتمر المعرفة الأول» الذي انعقد في شهر ديسمبر من سنة 2014 لتمكين أجيال الغد من المعرفة وبناء مجتمع واقتصاد عينه على التنمية المستدامة، ومن طرائف ما حصل معي أني رأيت الشاعر الكبير أدونيس في صورة جماعية مع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد والمشاركين في المؤتمر فقلت مشاكسةً ومذكّرةً صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بأنَّ أدونيس قال يوماً: المال العربي مال جاهل، فابتسم سموه والتفت مسائلاً أدونيس: والآن ما رأيك؟

وأكرمتني دبي مرة جديدة حين منحتني شرف تقديم افتتاح «أوبرا دبي» سنة 2016 وهي التحفة المعمارية التي صممتها الراحلة العراقية زها حديد، وافتتح الغناء فيها مغني التينور العالمي الإسباني «بلاسيدو دومينغو»، وقد تشرفت بتقديم افتتاح موسم نشاطها لثلاث سنوات متتالية وكنت في لجنة تحكيمها في سنتها الرابعة.

تنهال علي المشاهد التي كنت جزءاً من فعالياتها تقديماً أو تحضيراً أو حضوراً ويثب إلى الذاكرة من بينها مشروع «تحدي القراءة العربي» هو أكبر مشروع عربي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد لتشجيع القراءة لدى الطلاب في العالم العربي عبر التزام أكثر من مليون طالب بالمشاركة بقراءة خمسين مليون كتاب خلال كل عام دراسي.

ولا أنسى الطفل الجزائري محمد عبدالله جلود ذي السنوات السبع الفائز في الدورة الأولى وفصاحته التي فاجأت الجميع، ولا الطفلة المغربية مريم أمجون الفائزة في الدورة الثالثة ودموعها التي مسحها الشيخ محمد بطرف غترته في لمسة إنسانية مؤثرة.

مبادرات عدة صنعت مجد دبي العالمي في مجال الثقافة والفكر لا يتسع مجال لتعدادها منها «صناع الأمل» و«نوابغ العرب» و«تحدي الترجمة» وليس آخرها «إكسبو دبي 2020» الذي لاقى نجاحاً منقطع النظير.

ولن يكون آخر هذه المبادرات السماح بمنح الجنسية الإماراتية للمثقفين والفنانين والموهوبين الرواد في مجالات اختصاصهم، بعد أن استفاد من الإقامة الذهبية الآلاف من المبدعين في مبادرة فتحت أمامهم آفاق الإبداع والعيش الكريم. وما زلت أقول إن الجنسية تمنح ولا تطلب وخصوصاً إذا كانت بقرار من قائد حكيم يقدر الثقافة وعينه على مستقبل بدأت تتضح معالمه الواعدة من الآن.

هذه قصة عشقي لدبي، جئتها إعلامية في بداية مشوارها تتلمس طريقها فاحتضنتني وسمحت لي أن أكبر معها فمن خلال برامجي «صواري» و«وجوه» و«نلتقي مع بروين حبيب» ورصيد جاوز الخمسمئة حلقة حاورت فيها رموز الفكر والثقافة والأدب منحتني هذه المدينة الحبيبة إلى قلبي فرصة أن يعتبرني المنصفون رائدة في تقديم البرامج الحوارية الثقافية في الخليج. فلا أجد ما أقول لدبي بقيادة سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد سوى أن أستعير بيت المتنبي في سيف الدولة:

لَهُ أيَادٍ إليّ سَابِقَةٌ أَعُدُّ مِنْهَا وَلا أُعَدّدُهَا
عاشقة دبي – بقلم بروين حبيب
جريدة البيان 

العويس الثقافية ، اصدارات العويس