كان العراق يزخر في أيام الخير بالشعراء والأدباء والمفكرين الذين عارضوا الحكم الموالي للإنجليز بقوة وجرأة من دون أن يتلقوا الكثير من العنت أو المضايقة، بل وفي كثير من الأحيان كان المسؤولون يتجاوبون ويتعاطفون معهم ولا يتجاوزون غير النقد واللوم والعتاب في الرد عليهم. يعطينا الشاعر معروف الرصافي خير مثال على ذلك. وفي ميدان النثر برز الأديب والكاتب الصحافي إبراهيم صالح شكر الذي تميز بقلم سيال ووطنية دافقة وحدة في الكلام والنقد والمعارضة. أصدر عدة صحف على مر الأيام منذ العهد العثماني وحتى قبيل وفاته عام 1944. ودأب في كل ما كتبه في هذه الصحف من مقالات ملتهبة على تحدي الإنجليز والحكومات المتعاونة معهم.
اضطر المسؤولون في مناسبة واحدة، نتيجة القذف الذي تضمنته إحدى مقالاته إلى إحالته للمحاكم، حيث حكم عليه بالسجن لأربعة أشهر. ورغم خفة هذا الحكم، فسرعان ما صدر قرار من وزير الداخلية بالإعفاء عنه وإطلاق سراحه بعد أيام قليلة. فقد كانت الرحمة واحترام أهل الفكر والقلم، من مميزات الحكم الملكي في تلك الأيام.
ليس ذلك فقط، بل كوفئ إبراهيم صالح شكر بتعيينه قائمقاماً في عدة أقضية. وكان أخيراً قائمقاماً في قضاء خانقين عندما تمرد رشيد عالي الكيلاني على الإنجليز. حملته نزعته القومية المتطرفة إلى إرسال برقية نشرتها سائر الصحف عندئذ وأصبحت من الوثائق التي يستشهد بها في غليانها العاطفي وحماسها الملتهب في تأييد حركة الكيلاني وشتم الإنجليز والحكومة الموالية لهم. لقد قامر، كما يقال على الحصان الخاسر. فسرعان ما سقطت حكومة الكيلاني وهرب رجالها إلى إيران. وهنا زاد إبراهيم صالح شكر الطين بلة بأن زودهم بجوازات سفر مكنتهم من الدخول إلى إيران. وبالتالي هربهم من أيدي الحكومة في بغداد.
أدرك خطر ما فعله بتأييده القوي للكيلاني وشتمه لخصومه ثم مساعدة أعوانه على الهرب. فشعر بأن أيامه أصبحت معدودة. ترك وظيفته وهرب إلى بغداد حيث التجأ إلى مكتبة المثنى. فخبأوه في مخزن الكتب. سمع نوري السعيد بذلك. فركب سيارته وتوجه إلى سوق السراي ثم مشى على قدميه إلى مكتبة المثنى. تلاطف مع صاحبها وسأله عما لديه من كتب جديدة يود التفرج عليها. أدركوا ما وراء ذلك، وهو الكشف عن الكاتب المتمرد. فظل صاحب المكتبة يماطل ويعتذر حتى تمكن من التخلص من نوري السعيد. بعد بضعة أيام، تمكنت السلطات من تخليص الكاتب من سجنه بين الكتب وإعفائه واكتفوا بمجرد نقله من قضاء خانقين إلى قضاء قلعة صالح. نفض الغبار عن نفسه وخرج من مخبئه في المكتبة وتسلم الوظيفة الجديدة.
بعد بضعة أشهر سمع نوري السعيد بأن ذلك الكاتب المتحمس قد أصيب بالسل والسكري وتدهورت حالته الصحية تماماً فتوسطوا لتعيينه مديراً لمكتبة الأوقاف في بغداد حيث يمكن معالجته. بقي في بغداد يقبض راتباً محترماً لقاء أقل ما يمكن من العمل. ظل على ذلك الحال حتى توفاه الله عام 1944.
اشتهر إبراهيم صالح شكر بتصويره الأدبي للقضايا الوطنية وصياغته لشعاراتها بكلمات بليغة خلدت بين العراقيين لسنوات بعده كقوله «من يدافع عن الحق يدافع عن الرحمن». وأيضاً قوله: «ليس من العدل أن تلطم شخصاً وتمنعه من لذة الصياح والعويل».
جريدة الشرق الاوسط