الحنين للطفولة جذر الشعر والأدب وهو عودة إلى تلك الطفولات الآفلة.
قال الشاعر والكاتب سيف الرحبي “ربما من الصعب إيقاف الخراب، وكأن العدوان والتدمير جاء على أكثر المدن تماساً مع الذاكرة العربية وخصوصاً في المشرق العربي، كدمشق، وبيروت، وبغداد، وصنعاء، التي كونت الذاكرة الوجودية والثقافية للإنسان العربي، وكوّنت المعرفة والهوية. وهذه المدن تترنح الآن بين القتلة الخارجيين والداخليين. وهذه ضربة قاصمة للذاكرة العربية الثقافية مازلنا نعيش على إيقاع جراحها الأليم وربما سنعيش عليه طويلاً”
جاء ذلك حين حلّ مجدّدا ضيفاً على برنامج “كتاب مفتوح” الثقافي الذي يعده ويقدمه الشاعران عبدالرزاق الربيعي ووسام العاني برعاية مركز حدائق الفكر للثقافة والخدمات في سلطنة عمان، وذلك الخميس في أمسية افتراضية بُثت عبر جميع مواقع التواصل الاجتماعي بالتعاون مع منصة الفنر العمانية.
وعن رؤيته حول دور المثقف والثقافة في مواجهة الخراب الذي يهيمن على بعض العواصم العربية المهمة، قال الرحبي: تلعب الثقافة بالتأكيد دوراً في المواجهة لكن لا نستطيع تحميلها أعباءً أكثر مما تحتمل. لكن الضوء الإنساني العميق لن يختفي رغم كل التحديات. لأن اختفاءه يعني دخولنا في العتمة الأبدية والمروعة لنهاية الكائن البشري على الأرض. وهذا الضوء الثقافي الجمالي الإنساني على قلته أمام هذا الانحطاط الكاسر وهذه الفضاعات الدموية والوحشية يبقى وجوده مهماً واقعياً ورمزياً.
وواصل الشاعر سيف الرحبي حديثه عن تجاربه في الرحلات بين مدن شتى قائلاً إنّ “المدن بالنسبة لي تحمل الكثير من الكثافة الوجدانية، والكثافة في التجربة، والمشاعر وربما الكتابة أيضاً التي عبرت عنها. كثافة فيها من المأساة والجمال والفرح الشيء الكثير. أدب الرحلة لا يعني الكثير لي بالمعنى التقليدي بقدر ما يعكس الرحلة الداخلية للكائن البشري ويجسّدها في النص الشعري، والأدبي، والثقافي. الرحلة بين البلدان كانت بالنسبة لي قدراً شخصياً وتاريخياً في سياق تجربة تاريخية معينة لا أستطيع أن أحكي عنها بعجالة، وربما أحكي عنها في كتب بالتفصيل، والتأنِّ. تجربة الشام كانت مهمة بالنسبة لي كثيراً ولو جمعت كتاباتي عن الشام ربما تشكّل كتاباً، أو كتباً، مثلما كتبت عن القاهرة” زمن البدايات” مثلاً. مع أنني أحبذ الكتابة عن التجارب في هذه المدن، وعن تقاطعاتها الزمانية والمكانية ضمن سياق النص الثقافي والأدبي. بلاد الشام شهدت تشظياً أكبر بالنسبة لي على الصعيد الشخصي. فمنها انبثقت إقامات كثيرة، ومغامرات كثيرة. وعندما أقول بلاد الشام، فأنا أقصد دمشق، وبيروت. رغم أني أرى بيروت متفردة، وأصفها دائماً بأنها موطأ قدم الفردية المبدعة، والحرة في العالم العربي، ويبدو هذا أحد أسباب، ومقاصد تدميرها. وربما الأنظمة العربية على اختلافها إلا أنها تتفق أن هذه المدينة غير محبّذة لأنها خارج القطيع. فلابد أن يكون هناك قطيعاً في المسار التاريخي للأمة العربية، وأيّ خروج عنه يستدعي إعادة النظر. وبلاد الشام مهمة أيضاً من نواحٍ كثيرة بالنسبة لي منها بداية النضوج، والنضوج هنا بين مزدوجين، فربما يموت الإنسان، وما زال غير ناضج. لكنه يستمرّ بالمحاولة، والتجريب حتى لو وصل عتبات الشيخوخة، وهذا الاستمرار على صعيد الأدب، وعلى صعيد أسئلة الوجود، فالسؤال نفسه يظلّ مفتوحاً على الأفق، وعلى الهواجس المأساوية، والتدميرية لوجود هذا الكائن العابر من المهد إلى اللحد، بينهما هذه المسرحية الصاخبة، والعبثية، والمروعة التي تسمى الحياة. إقامتي في الشام كانت حاسمة على الصعيد الأدبي، والثقافي، وعلى صعيد الصداقة، والعاطفة أيضاً. انبثقت منها لاحقاً إقامات كثيرة مثل إقامتي في الجزائر حيث كانت أول مرة أتعرف فيها على الجزائر من خلال بلاد الشام. وكما هو معروف فإن المغرب العربي عموماً لم يكن معروفاً لنا في شبه الجزيرة، ولا في المشرق الثقافي المركزي. ثم بدأ يظهر كحضور ثقافي، وفكري، وفلسفي فاعل في مسار الثقافة العربية، في دمشق عرفت الكثير من الأصدقاء الجزائريين مثل: واسيني الأعرج، وأمين الزاوي، وربيعة جلطي، وزينب الأعوج والكثير غيرهم ممن أصبحوا أسماء لامعة في المشهد الثقافي، وفي دمشق هناك جالية جزائرية كبيرة جداً تمتدّ إلى أيام المفكّر، والمناضل والصوفي الأمير عبد القادر الجزائري الذي كتب عنه الصديق واسيني الأعرج رواية بعنوان “كتاب الأمير”، وكما هو معروف للأمير عبد القادر دور مهم في النسيج السوري من خلال فاعليته الاجتماعية، بعدها ذهبت للإقامة في الجزائر بدعوة من حزب جبهة التحرير الوطني، وهو الحزب الحاكم في الجزائر، وبقيت لمدة سنة. وفي النهاية كلّ رحلاتي بين المدن هي تجريبية مفتوحة على أفق المغامرة بدون حسابات مسبقة. حتى التعليم لم يكن مهمّاً لي بقدر المغامرة، والثقافة، والكتابة، والانسلال من الأماكن الحرة، والمفتوحة. أحياناً قدر الفرد منا يكون متشظياً مكانياً، وزمانياً، ووجدانياً بطريقة يعجز عن فهمها، أو السيطرة عليها. لذا بدأتُ أعيد النظر في هذه القدرية الوجودية بأبعادها المختلفة، وفي هذا الكائن الملقى في قارعة الطريق، لذا هذه التركيبة المعقّدة، وغير الواضحة تحتاج إلى اشتغال أدبي أكثر منه كلامي”.
سجالات أدبيّة
وحول موقفه من السجالات الأدبية بين التقليد والحداثة، والتي كانت تدور في مصر إبان وجوده فيها، اعتبر الرحبي أن “القاهرة كعاصمة كبرى للثقافة العربية ومن العواصم الأساسية التي شكّلت الذاكرة الثقافية العربية بكلّ تجلياتها المعرفية، لكنها بخلاف بيروت التي كانت مختبراً أكبر لحرية الإبداع، وللثقافة، وللتعدّدية، شهدت تيارات مغلقة، وصعبة كانت مقاومة للحداثة، إلا بمواصفات ومعايير معينة. ثمة تقاليد راسخة لا تسمح بمرور الأشياء مروراً سهلاً. ربما التراث العقّادي كان واضحاً ضمن هذه التيارات. فالعقاد عندما وصلته قصائد صلاح عبد الصبور حولها إلى النثر وقال هذا ليس شعراً. لذلك خاض تيار الحداثة، والتجريب في مصر معارك من أجل الحداثة أكثر من أيّ بلد عربي آخر، أكثر من العراق، وسوريا ولبنان، وربما أكثر حتى من المغاربة. فعندما جاء السبعينيون بمفاهيم جمالية، وفكرية، وشعرية مختلفة عن السائد واجهوا معارضة شرسة. ولذلك المغامرون الجدد على صعيد الشعرية المصرية لقوا كثيراً من العنت أكثر من غيرهم لكن ليس أكثر من عمان، والخليج طبعاً. والمفارقة أنه بالرغم من وجود هذا الجهاز من التصورات التقليدية المحافظة ألا أنّ أكبر حركة سوريالية في العالم العربي نشأت في مصر، وذلك أيام جورج حنين، ورمسيس يونان، وفؤاد أنور، وآخرين. هذه الكوكبة السوريالية المصرية كانت مثقفة ثقافة عالية جداً، وطليعية في كلّ المستويات. لكن مشكلتها كانت أنها مزدوجة اللغات حيث كان بعضهم يكتب بالفرنسية بالإضافة إلى كتابته بالعربية. ثم أنها لم تدخل في النسيج الثقافي المصري رغم أنها محطة طليعية هائلة، ومدهشة على الصعيد العربي وليس المصري، وحسب. ربما لاحقاً صارت التيارات الشبابية تتوسّلها وتدرسها. وبالنسبة لي وجودي في عمر مبكر في مصر لم يسمح لي أن أخوض في هذه السجالات وكنت قريباً آنذاك من الأنشطة الطلابية فقط، لكن بنزوع أدبي، وثقافي لم يكن قد تبلور بعد. حيث بدأت في مصر من الثانوية. لكني التقيت بدايات الجيل السبعيني مثل المرحوم حلمي سالم والمرحوم رفعت سلام وأمجد ريان وحسن طلب”
خصوصية شعريّة
وفي مداخلة للناقد العراقي الدكتور ضياء خضير الذي عاش لفترة طويلة في عُمان وكان قريباً من سيف الرحبي ومن الوسط الثقافي العماني، تفضل قائلاً: “سيف الرحبي يمثل حالة خصوصية بالنسبة لي. وأذكر عام 1999 عندما كنت في الأردن وعُينت حينها أستاذاً في جامعة مؤتة، ولكن هوسي بعمان جعلني أتصل بسيف الرحبي أكثر من مرة، ويبدو أن شهادتي الفرنسية كانت تحول بيني وبين هذا القبول. جئت عمان، وأنا مسكون بقصائد سيف. وعندما جاءت بي السيارة من مسقط إلى كلية المعلمين في صور التي عينت فيها رئيسا لقسم اللغة العربية، كنت أرى الطريق، وأتذكر وادي العُقّ، كما مررت أيضاً بقرية سرور. أعطاني هذا فكرة عن الطريقة التي كان سيف الرحبي يكتب بها عن الطبيعة. في (صور) استقبلني عدد من الأصدقاء الأدباء والشعراء أتذكر منهم سالم سعيد العريمي، وناصر البلال (يرحمه الله)، وناصر الغيلاني، وجمال الغيلاني وعبد الله العريمي، ومحمد عيد العريمي وآخرين، فشكّلنا في حينها ما يشبه الصالون الأدبي ننتقل فيه من بيت إلى بيت، وكان ناصر البلال هو لولب هذا النشاط. أول قراءة لي في هذا الصالون كانت عن سيف الرحبي حيث وجدت هناك تبايناً في تقبّله، فالشعراء الشباب كانوا يميلون إلى قصيدته، وإلى قصيدة النثر بينما يرفضه الآخرون إلى درجة الشتم. من ذلك كنت أفهم أن قصيدة النثر التي أسهم سيف الرحبي كرائد في إيجادها في عمان والخليج العربي، لم يكن الاختلاف حولها مجرد اختلاف حول الأوزان، والأشكال، وإنما كان نوعاً من التحديث الحقيقي، وفتحاً لنافذة حضارية. منذ أن كنت في العراق، وأنا أقرأ بعض دواوين سيف الرحبي التي توفرت لدي أو من خلال مجلة (نزوى) التي يرأس تحريرها، كنت أعجب كيف يستطيع هذا الرجل القادم من الربع الخالي، كما هو عنوان أمسيتكم، أن يكتب قصيدة من هذا النوع، ويضع العالم من دمشق إلى القاهرة إلى باريس، ويرحل من هنا، وهناك وأتذكّر أن سيفاً حينما كان في القاهرة كان يلبس العمامة كرجل دين أو ما يشبه. حينما قرأنا كتاب سعدي يوسف (خطوات الكنغر) وجدنا أنه يطلق على من يسميهم الشعراء الشباب بشعراء الشعاب مثل زاهر الغافري، ومحمد الحارثي، وسيف الرحبي أنهم انبثقوا في المجهول مثل شيء خارق للعادة بينما أنا في الحقيقة وجدت عكس ذلك. وأعتقد ومن خلال هذه الأمسية اتضح للجميع ارتباط سيف الرحبي بجذوره العمانية والعربية ارتباطاً وثيقاً. أتصور أن سيف يتذكر كيف أنه كتب عن مجلس المرحوم عبد الله الخليلي لدى وفاته عام 2000، وعن مجالس الإنشاد الشعري التي قد لا تكون متوفرة في أنحاء أخرى من الوطن العربي بخصوصيتها، ونوع الشعر، والإنشاد الذي كان يقرأ فيها. لذلك لم يكن الشعر العماني الذي كتبه هؤلاء الشباب سيف الرحبي، وإخوانه منبثقاً دون جذور سواء كانت عمانية، أم عربية. وارتبط سيف الرحبي بهذا التراث، وبأبي مسلم البهلاني وبالستالي على سبيل المثال ارتباطاً وثيقاً. شكراً لكم في برنامج (كتاب مفتوح) وأنتم تضيئون على هذه التجارب الحداثية المهمة لا سيما تجربة الأخ سيف الرحبي الذي أوجد نغمة جديدة علاقتها ليست بالشعر وحده، بل بالاتجاه الحضاري العام. ورغم كوني أكاديمياً إلا أنني معجب بالطريقة التي كوّن بها سيف الرحبي حياته دون أن يدخل في هذه الأكاديميات المتعبة، فصناعة الحياة، والشعر مختلفة تماماً ولا بدّ من مفارقة تجدها وراء تكوين أي مبدع”.
ووجّه الشاعر سيف الرحبي كلمة شكر للدكتور ضياء، على ماتفضّل به، وقال إنه لبس العمامة بشكلها الديني في عمان أيام الدراسة الدينية حسب المناخ العماني السائد آنذاك، ولم يلبسها في مصر. كما أكد أنه أفاد كثيراً من التربية في نسيج من الأدب والشعر بالإضافة للمناحي الفقهية، واللغوية وكانت مكوناً أساسياً للوعي اللاحق.
وفي سؤال لأحمد المسري حول انحسار همومه السياسية لصالح الهاجس الشعري والأدبي قراءة وكتابة وانتاجاً وذلك خلال المرحلة السورية واللبنانية من تجربته، أجاب الرحبي بأن “هناك دائماً تبدل في مواقع الرؤية للواقع السياسي وليس انحساراً. وربما الرؤية الحماسية والعاطفية المندفعة تركت مجالا لرؤية أكثر تأملية. وتنحو نحو الأدب، والثقافة كمنقذ أكثر من التعاطي السياسي المباشر. وربما أنا وصلت مبكراً إلى نوع من العدمية السياسية رغم أني كنت قي قلب المشهد السياسي العاصف حيث تتقاطع الأيديولوجيات، والأنظمة، والمعارضات. وكان لدي هذا الحس المبكر بالخواء والعدم وهذا يقود إلى الأسئلة الأدبية، والفلسفية، والوجودية أكثر مما يقودك إلى السياسة. فالمعطى السياسي الأيدولوجي لا يشفي غليلاً للسؤال الوجودي والمشكلة الوجودية لدى الكائن البشري ولدى المثقف. لكن بالتأكيد في اهتمامي الإنساني.
عرّج بعدها الشاعر سيف الرحبي على بعض ذكرياته في المرحلة الأوربية من تجربته ورغبته في دراسة السينما آنذاك. وتحدث عن آثارها قائلاً: ” ربما المواصلة في حديث وذكريات المدن والتشظي فيها قد لا ينتهي لأنها سيرة طويلة ابتدأت ولا تنتهي إلا بالنهايات الحتمية كالغياب والموت. لكنني أتطرّق إليه في السياق الثقافي. أنا فعلاً ميّال للطفولة البشرية، وللطبيعة كملاذ وجودي وروحي. الحنين للطفولة الشخصية أو البشرية هو جذر الشعر والأدب وهو عودة حنينية إلى تلك الطفولات الغاربة والآفلة من غير رجعة إلا في سياق النص وسياق الكتابة والممارسة الإبداعية والجمالية خاصة مع تصاعد الفضاعات البشرية من الحروب والجشع والظلم والانحطاط الأخلاقي. حتى في سياق التقدم الحضاري العظيم والإنجازات الجبارة فعلاً للعقل البشري، والتي لم نكن كعرب، أو كعالم ثالث فاعلين فيها، وإنما الحضارة المركزية كان لها الفاعلية الحاسمة، والعظيمة في هذا المجال. على سبيل المثال نحن ننتظر منهم اللقاح المضاد للوباء الذي يهيمن على الكرة الأرضية الآن. ورغم التقدم العظيم للعقل البشري والتقنية والمعادلات العلمية، يبقى هناك انسداد أفق روحي لإنقاذ الكائن من هذا الضياع وهذا التيه وهذا الانحدار المقلق الذي يعيشه يومياً. هناك خيارات للكاتب والمثقف والشاعر قد تكون للعودة للطفولة أحدها ليحتمي بها من برد هذا العالم وهذا التيه وهذا الضياع. أيضاً العودة للطفولة البشرية قد يكون لها نفس التأثير. وهذا ما يطرحه جان جاك روسّو وهو أحد منظري التنوير الأوروبي العقلاني من ضرورة العودة إلى الإنسان الأول، أو إنسان الطبيعة، أو الإنسان البري الذي لم يتلوث بسلم الطبقات، والانقسامات، والتقدم العقلاني اللاحق. ولا يخفى ان روسّو هو أحد واضعي العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم وذلك بعد الفيلسوف الإنكليزي هوبز، وهو امتداد لكوكبة تنويرية مهمة منذ كانط الذي كان سباقاً في هذا المجال. والمفارقات لدى المفكرين التنويريين والعقلانيين هي أقرب إلى المفارقات عند الشعراء وشطحاتهم وأمزجتهم المتقلبة. من هنا أنا أقول إنه لا يمكن البت في مسألة بالمعنى الحاسم والنهائي، بل نطرح الأسئلة التي تفتح إمكانية الأجوبة، ولكنها لا تجيب. وكل من يحاول الإجابة على الأشياء سيكون خطابه ناقصاً وبحاجة إلى إعادة نظر”.
يشبه شعره
وفي سياق جديد لبرنامج كتاب مفتوح الثقافي، انضمت الفنانة التشكيلية بدور الريامي زوجة الشاعر سيف الرحبي إلى الأمسية لتقدم شهادات عن الإنسان والزوج والأب سيف الرحبي. حيث قالت إنه “ربما يكون سؤالاً شائكاً للجميع حينما يتعلق بالتشابه بين الشاعر والإنسان في نفس الشخصية، ونتساءل عندما نقرأ لأي كاتب هل هذه المشاعر حقيقية ودائمة في الحياة اليومية أم لا. أنا كذلك تساءلت في بداية الأمر والآن أستطيع أن أجيب بنعم، لأن سيف الرحبي الشاعر يشبه سيف الرحبي الإنسان بشكل كبير خصوصاً بالمبادئ الرئيسية والأفكار نحو الحياة. أرى فيه أحياناً مقتطفات واضحة في حياته من شعره، كما أرى فيه التقلب، والسوداوية،والطفولة والأمل، والتفاؤل، وكلّ ذلك. نعم هو يشبه شعره لكن ليس بالمعنى الحرفي بل المعنى العام والشعور العام.”
وفي سؤال للشاعرة (عنقاء الروح) حول الإنسان سيف الرحبي وكلماته بين الغموض والتأويل إن كان يزداد وضوحاً بين جدران بيته، أجابت الفنانة بدور الريامي: “أولاً أحيي الصديقة والشاعرة المرهفة عنقاء الروح ويبدو أن الشعراء يلتقطون كل صغيرة وكبيرة في الشعر فحساسيتهم ظاهرة وقوية. أما بالنسبة لسيف، فهو ربما أكثر وضوحاً في البيت من أشعاره التي تبدو مفتوحة على التأويل أمام القارئ. ولكوني زوجته فهذا يجعلني ربما أقرؤه بوضوح أكبر لكن ليس بالشكل الحرفي للكلمة لأني تعودت أن أقرأه شعراً من قبل. وربما علاقتي بشعره سابقة للزواج حيث استطعت في معرض الأمكنة أن أحول كلمات قصيدته (قصة حب إلى مطرح) إلى عمل فني. مؤخراً أيضاً عندما كنا في الجبل الأخضر كنت أصور مشهداً قصيراً، وكان سيف يكتب واستطعنا أن ندمج هذا في فيديو قصير كان بصوته أيضاً، فالروح كانت موجودة، لأننا كنا في نفس الموقع، وفي نفس الحدث، ومشاعرنا كانت باتجاه المكان، لذا استطعت أن أدمج الكلمات مع العمل المصور. ومن الجدير بالذكر أن كل كتبه الشعرية بعد الزواج كانت من تصميمي. ومن الجميل هو وجود الحوار الدائم بيننا على صعيد الفن التشكيلي والثقافة، فهو يمتلك ثقافة فنية عالية تكاد تفوق ما لدى بعض الفنانين التشكيليين، وهذا ما لامسته شخصياً. ربما لم يحول أعمالي إلى نصوص شعرية، ولكنه بالتأكيد حوّل الجو الفني الذي استطعت خلقه في البيت إلى أكثر من نص
حساسيّة بصريّة
وأضافت الريامي “أود أن أذكر أن لدى سيف حساسية بصرية فائقة وجميلة جداً تنافس أي فنان تشكيلي لذا حوارنا الفني يكون دائماً سهلاً فباستطاعته التقاط أي مشهد بصري بسرعة مدهشة ثم يمتزج هذا المشهد داخله ويظهر بطريقة شعرية. لذلك كنت دائماً أحاول أن أصالح المكان مع سيف سواء في الزراعة أو في اللوحات لأني أعرف أن إطاره البصري شديد الحساسية “.وعن الأب سيف الرحبي، تحدثت بدور الريامي قائلة:”يكاد أن يكون أحنّ أب بسبب حنانه المفرط، ومشاعره الحساسة تجاه الأطفال. وهذا يسبب لي صعوبة لأن دور الصرامة سوف يكون على كاهلي، والمفروض بالأم أن تكون هي الحنونة على الأولاد وليس العكس. ربما كانت فكرة الزواج مرعبة له في البداية بسبب الارتباط الذي تفرضه هذه العلاقة وهذا ينسحب أيضاً على فكرة الأبوة. لكني أرى أن سيفا تغيّر بوجود الأبناء وتغير حتى في شعره ولو بشكل طفيف. وبإمكانكم ملاحظة هذا الأثر في كتابه رسائل الشوق والفراغ ابتداء من تعارفنا واستعراضه لبعض الرسائل المتبادلة بيننا ومن ثم اكتشافه للأبوة. لذا أراه كتاباً مفصلياً وفيه روح جديدة حيث أضافت الأبوة إلى كتابة سيف الرحبي. وأستطيع أن أقول إن أبوة سيف الرحبي في الوسط الشعري كانت متواجدة قبل أن يكون أباً. وفي ظل وجود النرجسية التي تسيطر على بعض الكتّاب، إلا أن سيف الرحبي يظل حانياً على الكتّاب الناشئين ويعرف كيف يأخذ بيدهم”.
وفي هذا السياق أضاف سيف الرحبي “من فوائد الزواج مثلاً الأولاد. فأنا من الناس الذين يصحون في الصباح مسكونين باليأس من الوضع البشري. وكل حياتي هي كفاح ونضال ضد هذا اليأس لكي نعيش مسرة الحياة بشكل طبيعي على نحو ما. لكن عندما أرى أولادي (ناصر وعزان) أشعر بأن النور الإلهي يتجلى في هذين الولدين وينتشلني هذا النور من دائرة اليأس وفضاعاته”.
وعن رغبته بدراسة السينما في وقت مبكر من حياته، أوضح الرحبي “كنت أطمح لدراسة السينما، ولكني لم أدرسها. حيث بدأ اهتمامي مبكراً بالسينما بمعناها الطليعي، والإبداعي، والجمالي. أحببت المشهد السينمائي، والحركة، والألوان، والحيوات المتعددة داخل الكادر السينمائي. حالياً أشاهد فيلم، أو فيلمين في اليوم الواحد. والمشهد البصري مفيد جداً للشعر واللغة. إذ بالإمكان تحويل المشهد الحسي إلى لغة شعرية أو سردية. أنا في الحقيقية لم أكتب للسينما ولكني كتبت كتاباً عن السينما وعن انطباعاتي حول أفلام من منظور ثقافي وأدبي وليس تقني. كما لم أكتب للمسرح أيضاً. والتجربة التي تمت مع المخرج جواد الأسدي كانت بإعداد منه لبعض نصوصي الشعرية وتقديمها في عمل مسرحي. بعدها انبثقت فكرة نشيد الأعمى”.
إيقاع الحياة
هجوم شرس
وعن السجالات الأدبية التي خاضها سيف الرحبي في عمان خصوصاً بعد صدور كتاب أطروحة الثقافة الخليجية في نقد النقد الأدبي العماني المعاصر للدكتور سعيد علوش، قال “لم يكن لي سجالات مع الدكتور المذكور الذي كتب الكتاب على أساس أنه رجل أكاديمي لكن الكتاب ليس علاقة بالأكاديمية ولا بالأمانة المعرفية والأخلاقية في ظني، لأنه اعتمد على قصاصات من الصحف، وركبها تركيباً مزاجياً يلائم ما يريد أن يقوله في هذا أو ذاك. فكانت في نظري شهادة غير موفقة لمرحلة وجوده هنا. لكن كانت لدي سجالات مع غيره في عمان مثل (أبو همام) لأنه هاجمنا هجوماً شرساً بدون أي اعتبار معرفي، وأخلاقي، وحولنا إلى زنادقة وكفرة ليس لسبب سوى أننا كتبنا خارج النظم والعمود الخليلي والتقليدي. وذلك لأنه واحد من تلاميذ العقاد بالمعني السلبي للكلمة رغم أن العقاد كان رجلاً عظيماً قد نختلف في جانب معه لكنه ترك إرثاً نقدياً وأدبياً مهماً جداً. لكن أبا همام أخذ منه تعصبه فقط، لكن بمراحل بعيدة حيث أخذ الجانب التعصبي ضد الشعر غير الموزون وضد الثقافة الحرة. أتذكر أنه كتب مقالاً مرعباً نشر في جريدة( عمان) في تلك الفترة، واضطررنا إلى الرد عليه وعلى آخرين أيضاً دخلوا على خط السجال ليزيدوا الطين بلة بدلاً من إثراء الساحة العمانية والثقافية التي كانت في طور التشكل، ورغم أن بعضهم كان من الأكاديميين المتخرجين من جامعات غربية وكأنهم يحاولون تكريس الانغلاق والتخلف وانعدام البحث الحر. ولا نقول الآن سوى يرحمه الله بعد أن رحل. أما في السنوات الأخيرة فلم يعد هناك ما يحرض على الدخول في سجالات ثقافية وفكرية”.
تحديات مستمرّة
في حديث عن تجربة مجلة نزوى والتحديات التي تواجهها، قال سيف الرحبي “كل منبر ثقافي يحترم نفسه ويسعى لتقديم شيء مختلف عن النمطي والسائد سيواجه بالتأكيد تحديات مستمرة وتواجه أسئلة في تقديم هذه الثقافة بالمعنى المختلف. وكذلك كيف يمكن أن تضيء على مناطق معتمة في طريقة الثقافة وحاضرها أو ثمة وعد مستقبلي عند عناصر وأصوات. ومجلة نزوى تحاول مواجهة هذا السؤال باستمرار في محاولة لحله أو تخطيه بطرق معينة. وأنا شخصياً أعطيت المجلة الكثير من روحي وجهدي ومن همي الثقافي والجمالي والإنساني. وواجهت المجلة صعوبات ومطبات كثيرة لا يتسع المقام لشرحها واستعراضها. وكما يتجشم الكاتب العناء والمغامرة لكتابة قصيدة أو مقال كذلك المجلة تتجشم نفس العناء. لكن في النهاية يتولد الشعور بأنك تنجز شيئاً إبداعياً وإنسانياً وجمالياً مختلفاً أو تحاول أن يكون مختلفاً ليضيء على أجيال وأماكن مختلفة انطلاقاً من عمان إلى كل الفضاء العربي وإلى فضاء اللغة العربية الذي امتد من خلال أقسام المجلة إلى دول غير عربية مثل الهند وماليزيا وفرنسا. مهم جداً التواصل في مد الجسر الثقافي والإبداعي في ظل ما نراه من عداوات وحروب وفضاعات سياسية وعسكرية وتشدد وشعوبية إلى آخر كل هذه الأشياء غير السارة على الصعيد الإنساني”.
وعن علاقته بالجمهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أوضح أنه “ليس لدي مزاج في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي حقيقية. وهذا يعود لأسباب شخصية بحتة. هناك من يفضل الظهور في مواقع التواصل باعتبارها توفر مساحة للظهور والتواصل الثري وهناك من يفضل التفرغ للإبداع عبر العزلة باعتبارها أهم من الاختلاط والحضور. هي في النهاية خيارات شخصية وليست حكم قيمة حول أيهما أفضل. ربما هذه الأمسية معكم فقط لهذه السنة وقد لا أحضر غيرها لسنة أخرى”.
صحيفة العرب