سيرة ثالثة

عادل خزام

الذاهبون إلى درس الفلسفة الذي لا ينتهي، رأيتهم بعد ألف عام جالسين في المكان نفسه. إنهم يخوضون في السؤال، وكأنهم يخضّون أسس الوهم، مزلزلين الثوابت الصمّاء التي في العقل اليابس. كل كلمة شكّ يرميها الفيلسوف في سكون المطمئنين، تصيرُ ناراً وتحرق ملاذ الخائفين من الفكرة النيّرة. كل طلقة يبثّها الفيلسوف في الفراغ الكوني، تظل تتردد مثل صدىً لا نهائي. وكأن للفلسفة أيدي خفية طويلة تتسرّب عبر العصور وتظل ترج من يخدّرُهم الضعف وتغلبهم الحيلة فلا يعودون يرون الحقيقة، حتى لو سطع بريقها كالشمس في وجوههم.
أعرف امرأةً رمت جرّة الماء من على رأسها، وقالت للرجال وهم على ظهور الخيول: لا يكفي السيف وحده في الغزو والحرب! ثم امتطت مثلهم حصاناً جامحاً روضته بنفسها وانطلقت ليلاً لتجلب لهم النار من أعالي الجبال. لكنها حين عادت لم يصدقها أحد. ظل الصغار يرمونها بحجر، وراح الكبار يرمونها بالسحر، ومحا المدوّنون سيرتها من كتب البطولات. مع ذلك، هي لم تمت، بل صار اسمها نُطقاً في حوار العقل مع العقل.  
أعرف فيلسوفاً قال إن كل حربٍ حقيقية إنما هي تدورُ حقاً بين الأفكار. أما حروب السيف بالسيف، فهي مجرد شكلٍ كاريكاتوري للحقيقة في عمقها. وقال أيضاً: انظروا للتاريخ، إنه مجرد حروب أفكار ليس إلا. هذا ينطحُ عناد هذا، وذاك يقاومُ إصرار ذاك. لكنه حين كتب ذلك على ورقةٍ وعلقها على باب مهجور، صار هو نفسه ضحية الفكرة المضادة، وسرعان ما جرى دمه هدراً وصارت كلماته بقعاً سوداء في كتب التواريخ المظلمة.
تعالي يا حبيبتي لنحرّف الكلمات والأفكار. سأقطع الوردة من عنقها، وأنتِ ثبّتيها في المزهرية أمام المارة لعلهم يظنوننا دعاةَ تحضّرٍ وتكفُّ سهام عيونهم عنّا. سأهدمُ الجبلَ أيضاً، وقبل أن أسقط من عيونك، سأقفُ على رصيف منسي وسأنادي بين الحشود: أنا سليلُ بشرٍ امتهنوا حرفة شق الطريق إلى ما لا نهاية. من أوراق سيرتي الأولى أدركتُ أن الخير والشر شقيقانِ اختلفا في الفكرة وفي المعنى وفي الشكل. ومن أوراق سيرتي الثانية، عرفتُ أن للحقيقة أبٌ واحدٌ فقط هو العقل، وأمٌ واحدةٌ فقط وهي القلب. وأدركُ اليوم، أن حياتي بطولها وعرضها، ليست سوى مسافة شبرٍ بينهما.

جريدة الاتحاد