يحوِّل الشَّاعر ما يرى ويحدثُ ويشاهدُ ويشعُر ويحدِسُ إلى سيرةٍ للذات داخل النصِّ؛ فهو ينطقُ من أناه عن هواه، تلك الأنا المتوهجة المُتقِدة التى تستعرُ فى باطنه وكتابة الذات وسرد سيرتها فى هتكٍ واعترافٍ لما هو محجُوب، هو تقليدٌ شعرىّ عربىٌّ قديمٌ، وليس وليد الحداثة الشعرية، حيث يفيضُ الشَّاعر، ويستدعى ما هو غائرٌ ومستترٌ فى سياقِ شُعوره ولا شُعوره المحمولين على المعرفة والوعى بطرائق الكتابة، وبناء النصِّ.
فالشاعر ينحازُ إلى ذاته.تلك الذات المتشابكة مع الأماكن والمُتداخلة مع البشر والعوالم التى ينفخُ فيها من رُوحه، معتمدًا على ذاكرته ورُؤاه. فهناك شعراء كتبوا سيرهم الذاتية فى الشِّعر والحياة: «حياتى فى الشِّعر» لصلاح عبد الصبور، و«تجربتى الشعرية» لعبد الوهاب البياتى، و«قصتى مع الشعر» لنزار قبانى و«الكشف عن أسرار القصيدة» لحميد سعيد،.. وهناك شعراء لم يكتبوا، لكن من اليُسر أن نجد هذه السيرة مبثوثةً فى ثنايا نصوصهم، سواء كُتبت بضمير الأنا، أو ضمير الغائب، أو كُتبت بأشكالٍ فنيةٍ مختلفةٍ، بحيث لو تم تركيبُ هذه الإشارات معًا لشكَّلت سيرةً ذاتيةً للشَّاعر بالشِّعر وليس بالنثر؛ وأرى أن الكتبَ الشعريةَ لأىّ شاعرٍ تشكِّل فى مجموعها كتابًا واحدًا ذا لغاتٍ وأبنيةٍ متعدِّدةٍ،وتحمل صورة الشَّاعر وسيرته فى مراحله الحياتية والنفسية.
وسيرة الشَّاعر فى نصِّه حرَّة لا قيد عليها من حيث التسلسل الزمنى، وحضور الأماكن بدقة، إذ يمكنُ أن تحضرَ مُستترةً، خفيةً، مبعثرةً على العكس من السيرة الذاتية المُتعارف عليها التى تقتضى التسلسل، ولعل سطرًا شعريًّا أو مقطعًا شعريًّا فى كتابٍ، يمثِّل وحده «كتابَ سيرةٍ لشاعرٍ» ؛ لأنَّ الشاعر حاضرٌ وليس مجهولا فى نصِّه، فقط يمكنُ أن يكون متقنِّعًا أو مُستترًا، لكنه ليس مجهولا أو منسيًّا. كما أنَّ سيرة الشَّاعر فى شعره تخلو من الشَّرح والتفسير والتعليل والتوضيح، فهى تحضر شعرًا، ومن مآزق الشِّعر الشرح. وما الشعر فى النهاية إلا صياغة خاصة وأخرى للذات فى تحوُّلاتها وتبدُّلاتها وتجلياتها وفيوضاتها وتشابكاتها وهزائمها. والأنا ليست ذاتًا رومانسيةً معتمةً، ضيقة محدودة ومغلقة، بل هى تتسعُ بحجم انفتاح شاعرها على العوالم والمعارف. كما أنَّ النصَّ الشعرى تجربة شخصية وذاتية بالأساس، هو مرآة نفسه، يعرِّيه ويسقط عنه الحُجب والأستار؛ بحيث يصيرُ مرئيًّا لمن يتلقاه. فالشَّاعر لا يستجلب فى نصِّه أجزاء أو مقاطع من سيرته، ولكنها تحضر بشكلٍ عفوىّ وتلقائىّ ؛ لأن ما هو مخزُون يحضر بكثافةٍ.
وإذا غيَّرتُ فى مقولة الإمام على بن أبى طالب (13 من رجب 23 ق هـ/17 من مارس 599م – 21 من رمضان 40 هـ/ 27 من يناير 661 م): «تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ اَلْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ»، فقلت «اكتبُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ الشَّاعرَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ قلمِهِ» لصحَّت المقولة أيضًا، وعبَّرت عن المقصود. لأنَّ ذات الشاعر هى نقطة الدائرة، ومركز البؤرة؛ والعنصر الفعَّال، وهى التى تدفع عملية الكتابة نحو التحقُّق، باعتبارها الجوهر والأساس؛ فالشاعر يحتجب أو «يكشف» خلف ما يكتب من شعرٍ وليس كلُّ شاعرٍ لديه المقدرةُ والتمكُّن الفنِّى والرصيد المعرفى لأن يكتب نفسه فى النص.
المصري اليوم