للكاتبة والناقدة المغربية زهور إكرام، صدرت أخيراً رواية «لا أتنفس» التي «تماهت عوالمها مع زمن الجائحة» كما تقول. وبمحاذاة الخط الكتابي، تبدو زهور كرام واحدة من أكثر الأكاديميين المغاربة اهتماماً برصد تجليات العلاقة بين التكنولوجيا والإبداع؛ وهو ما جعلها تترأس مؤتمراً متخصصاً حول «الأدب الإلكتروني العربي»، وتصدر كتاب «الإنسانيات والرقميات وعصر ما بعد كورونا»… هنا حوار معها:
> أنتِ شديدة الحماس لمصطلح «الأدب الإلكتروني العربي»، وترأستِ مؤتمراً حوله قبل ثلاث سنوات، ببساطة: ما ملامح هذا الأدب وكيف يختلف عن الأدب المعتاد؟
– هو حماس مُدعم بشرط علمي. تعلمنا في البحث العلمي وممارسته أن كل الظواهر قابلة للتحليل، ليس هناك موضوعٌ غير قابل للتفكير في الممارسة العلمية والنقدية. من هذا المنطلق بدأت أفكر في الأدب الرقمي منذ سنوات عندما قرأت أول مرة نصاً رقمياً بالفرنسية قبل أن أقرأ النظريات حول هذا الأدب، واكتشفتُ طريقة مختلفة في الكتابة. كان منطلقي الأول في الاشتغال على هذا الأدب هو نظرية الأدب. بمعنى، كنت أبحث في هذا الأدب الجديد من داخل هذه النظرية التي تعطينا تصوراً حول تاريخ الأدب وكيف يتحول تبعاً للوسائط. لا أدافع عن هذا الأدب بانفعالٍ أو إعجاب، إنما أفكر فيه بمرجعين اثنين: مرجع نظرية الأدب ومرجع العلمية، ومن خلالهما توصلتُ إلى أن الأدب الرقمي هو إمكانية من الإمكانات التعبيرية الجديدة التي تنتج من العلاقة بالتكنولوجيا، مثلما حدث مع الوسيط الورقي عند اختراع المطبعة. إنه يعبر عن الحقيقة الجديدة للأدب باعتباره نظاماً رمزياً مختلفاً، تتجلى فيه تمثلات الإنسان في العصر التكنولوجي.
وعليه، فإن الأدب الرقمي هو كل شكل سردي أو شعري يستخدم جهاز الحوسبة وسيطاً وينفذ خاصية أو أكثر من الخصائص الخاصة بهذا الوسيط، ويستعمل المواقع الاجتماعية مثل «فيسبوك» و«تويتر» والتطبيقات التكنولوجية. إنه مكان لقاء حقيقي بين الأسئلة المتجذرة في التاريخ الأدبي، وبين التأملات في مفهوم النص والآخرين على الاستخدام والخيال التكنولوجي كما يقول الباحث الفرنسي فيليب بوتز. فلا يتعلق الأمر بمجرد استخدام تقنيات التكنولوجيا، ووضع الكتابة في حلة مدهشة ومُبهرة، إنما بالكشف عن عالم تكنولوجي يُقيم فيه البشر. ولعله مستوى جديد من الوجود نحتاج إلى تأمله من أجل التعامل معه. لهذا؛ فالدخول إلى عالم الأدب الرقمي يتطلب ميثاقاً جديداً، وثقافة مختلفة؛ إذ إننا لو اعتمدنا الثقافة المألوفة، فقد ينحرف بنا الاتجاه. من هنا يعد الأدب الرقمي وقراءته تجربة ثقافية ونفسية واجتماعية ومعرفية جديدة ومختلفة، وتُجدد أسئلة التأليف والكتابة والقراءة واللغة.
> في كتابك «الإنسانيات والرقميات وعصر ما بعد كورونا»، هل تبدو «الرقمنة» مصيراً محتوماً؟
– اليوم نتحدث عن التكنولوجيا باعتبارها سلطة تتحكم في العالم. ويعود ذلك إلى ما يميز الثورة الرقمية من خصائص تختلف عن الثورة الصناعية، مثل السرعة والجودة. وحتى أعطي مثالاً عن ذلك ونقرب الفهم إلى القراء، أشير إلى آخر تقرير لإحدى كبرى شركات الكمبيوتر و«معهد المستقبل»، وهو يذكر أن 85 في المائة من المهن التي ستكون عام 2030، غير موجودة الآن، وهذا يعني أن المهن الموجودة اليوم إما أنها ستندثر كلياً، أو تتغير لتظهر مهن جديدة ذات علاقة بالذكاء الصناعي والروبوتات والرقميات، بشكل عام. ستؤثر هذه التكنولوجية السريعة في جوهر الحياة والعالم. وبالتالي، إذا لم نستوعب هذا المتغير في التدبير السياسي وفي منظومة التعليم وسوق العمل فلن نستطيع أن نكون في المستقبل.
> كيف ترين علاقة التكنولوجيا بالإبداع بشكل عام، ومتى تضر الأولى بالآخر؟
– هي علاقة طبيعية بحكم اعتماد التعبير الأدبي في كل مرحلة تاريخية على نوعية الوسائط الموجودة. يمكن للإبداع الاستفادة من الوسائط الرقمية، كما يمكن للشبكة أن تُسهم في ترويج الإبداع وتوزيعه بشكل يتجاوز إكراهات التوزيع العادي. لكن يمكن لهذه المعادلة أن تنهار عندما لا يتم استثمار الرقميات لصالح الإبداع، أو يتم اعتماد التقنيات على حساب الإبداع. يمكن للتقنية أن تضر بالإبداع إذا لم يتم توظيفها بطريقة سليمة. نحتاج من أجل تحقيق هذه المعادلة الموضوعية بين التكنولوجيا والإبداع تنوير الاستخدام التكنولوجي من جهة، وعدم افتعال الإبداع من جهة أخرى. إنها مسؤولية مُضاعفة على المبدع الذي من المفروض أن يقتحم عالم التكنولوجيا دون أن يتخلى على زمن الإبداع المرتبط بالخيال. فالتقنية قد تسهم في تطوير فعل التخييل.
> برأيك، هل سيندثر الكتاب الورقي قريباً كما يروج البعض؟
– لستُ مع هذه الفكرة، على الأقل في عالمنا العربي؛ لأنها لا تستند إلى بنية تكنولوجية. لكن عِوضاً عن ذلك يمكن الحديث عن مُزاحمة الكتاب الإلكتروني للكتاب المطبوع. وهذا ما نشاهده اليوم من اعتماد النسخ الإلكترونية، خاصة عند الطلبة. لأن الكتاب الإلكتروني أصبح متوفراً ومن دون جهد أو مقابل مادي. شخصياً، أنظر إلى الموضوع من زاوية الاستفادة، بمعنى كيف يستفيد الكتاب المطبوع من النسخة الإلكترونية، وكيف يمكن للكتاب المطبوع أن يعمل على تنوير القارئ بأهمية الثقافة الرقمية. إلى جانب كون الأمر يخلق نوعاً من التنافس من جهة، ويضع أمام القارئ خيارات من جهة أخرى، وهذا هو الأهم. أظن أننا نعيش «دمقرطة» المعلومة؛ ولهذا كل فرد له الحق في اختيار أي صيغة، مطبوعة أو إلكترونية إنما الأهم من كل هذا كيف نخلق ثقافة القراءة.
> ماذا عن تجربتك الروائية الأخيرة «لا أتنفس»؟
– هي شكل سردي مختلف أدخل عالمه بزمن إبداعي جديد. هي رواية بدأت كتابتها منذ سنين، لكن لم تنم إلا مع زمن الحجر الصحي مع الجائحة. دون أن أطلبها، وجدتُ الرواية تنمو بسرعة فائقة، تمتد إلى الأمام بعوالمها التي تماهت مع زمن الجائحة. «لا أتنفس» أدهشتني عندما انتهيتُ من كتابتها، وأعدتُ قراءتها، وجدتها تتحرك في عوالم مختلفة، وأمكنة مختلفة، تتحرك في العالم بأسره وتحكي ما يحدث لإنسانية الإنسان في علاقة عميقة بالتكنولوجيا، وبالزمن الذي أصبحنا نوجد فيه وهو واقع السوشيال ميديا. رواية تعيش في صفحة «فيسبوك»، تهرب شخصياتها إلى الصفحة بمشاكلها وقضاياها وأزماتها لعل الصفحة تُنير وجودها، غير أن الصفحة تتحول إلى شبه مرآة تُعري حقيقة الشخصيات بعد أن تُدخلها في زمن الأقنعة وتتركها تتصرف، فتحدث المفاجأة التي أتركها مفاجأة لقراء الرواية.
> هل هناك خصوصية ما – سلباً أم إيجاباً – للناقد الأكاديمي حين يخوض غمار التجربة الإبداعية؟
– أنا كتبتُ الإبداع قبل النقد، وبدأت بكتابة الشعر وأنا تلميذة بالثانوية، ونشرت نصوصاً شعرية، وروايتي الأولى «جسد ومدينة» نشرتها في بداية علاقتي بالكتابة، الإبداع هو لغتي الأولى وعشقي الأول، أما النقد فقد بدأته كتخصص علمي، وتوطدت علاقتي به مع اشتغالي بالجامعة، فتحول إلى خطاب ومشروع ورؤية ومسؤولية معرفية. بين النقد والبحث العلمي يحضر الإبداع باعتباره شوقاً مستمراً، ورغبة تنزاح عن كل وصاية أو التزام بزمن أو بموضوع. لهذا؛ علاقتي بالإبداع خاصة الرواية هي علاقة بزمن الخيال وانتظار ما سيولده هذا الزمن من عوالم تمنحني الدهشة.
> ألا يحدث أحياناً بداخلك صراع بين الناقد والمبدع ؟
– عندما أدخل حالة الإبداع أنسى أني ناقدة أو أكاديمية، لأني لا أصطنع الحالة ولا أزيفها، أتركها تُبدعني، لأراني بتأويلات جديدة، وهنا ألقى سعادتي مع الإبداع. لأني لو اصطنعتُ حالة لا أشعر بها لن أكتب إبداعاً. مع ذلك، لا شك أن تكويني المعرفي والفلسفي والعلمي والنقدي قد يتحول إلى عينٍ ضمنية في كتابة الرواية، ليس عيناً مراقبة وهنا الفرق. شخصياً، أجدني في ملتقى النقد والإبداع والبحث العلمي متعددة برؤية مفتوحة على كل الحقول المعرفية.
> يشكو معظم الأدباء العرب من قصور حركة النقد عن متابعة الإبداع، وأن النقاد ينحازون غالباً إلى مشاهير الكتاب ويتجاهلون الإبداعات الجديدة… كيف تنظرين لهذا الأمر؟
– بالفعل، حركة النقد لم تعد توازي حركة الإبداع في السنوات الأخيرة، وهذا موضوع يحتاج إلى التحليل؛ لأنه يطرح مسألة مهمة، وهي ضعف التفكير. عندما نتحدث عن النقد فنحن نتحدث عن شكل من أشكال التفكير. هناك أسباب عديدة وراء هذا الموضوع، من بينها اهتمام الجوائز الأدبية بالأدب أكثر من النقد< مما أسهم في خلق تراكم أدبي كبير، وهي مسألة قد يصعب متابعة النقد لهذا التراكم، إلى جانب أن النصوص الأدبية خاصة السردية تتجاوز اليوم السائد في نظام الكتابة، مما يتطلب جهداً معرفياً لتمثل طبيعة هذا البناء الجديد. غير أن الناقد يتحمل المسؤولية؛ لأن مهمة النقد تتطلب منه القدرة على الإصغاء إلى النصوص بشكل متطور، حتى ينتج الجديد من هذه النصوص.
> ما سر تميز المغرب في الجانب التنظيري النقدي مقارنة ببقية البلدان العربية الأخرى؟
هناك عوامل كثيرة وراء عمق المشهد المغربي المعرفي والفلسفي، أولاً طبيعة المغرب الفسيفسائية، فهو عربي أمازيغي أندلسي صحراوي متوسطي. تسمح هذه التركيبة بخلق قابلية للانفتاح على الثقافات والحضارات من دون إصدار أحكام وإنما بحسن تدبيرها وتحويلها إلى مكون ذاتي؛ ولهذا كل أجنبي يأتي إلى المغرب لا يشعر بالغربة أو الاغتراب لأن المجتمع يستوعبه بشكل سريع. هذه قوة المغرب في التعايش والتسامح مع كل الثقافات والتي تُسهم في تطوير فكره وقبول الآخر مع الحرص على عدم الذوبان. النقطة الثانية وهي الجامعة المغربية التي انفتحت منذ تأسيسها على الفكر الحداثي والفلسفي. واستوعبت النظريات النقدية التي كانت نهاية الستينات من القرن العشرين تنتعش في فرنسا بسبب أفكار ثقافات أخرى قادمة من المعسكر الشرقي آنذاك. عاشت الجامعة المغربية – تقريباً – زمن الجامعة الفرنسية، من خلال متابعة ما يصدر هناك من نظريات واستثمارها في التدريس الأكاديمي والدرس النقدي المغربي، خاصة أن أغلب عناصر النخبة المثقفة المغربية كانت تُدرس بالجامعة، فارتبطت الرؤية الثقافية بالدرس الجامعي ومنحت للمغرب جيلاً من النقاد يعتبرون النقد علماً مشروطاً بقواعد نظرية الأدب، هذا إلى جانب جو الحرية في التعامل مع الأفكار والنظريات وتجريبها بلغاتها، وليس فقط عبر الترجمة.
جريدة الشرق الأوسط