كان يمكن لرواية «1984» للروائي جورج أورويل، التي أطبقت شهرتها الآفاق، ولا غلو في هذا القول أبداً، ألا تصدر. حين عرض ناشرها مسودة الرواية على الشاعر والناقد ت.إس. إليوت، بكل ما يمثله الرجل من أهمية إبداعية ونقدية، لمعرفة رأيه، نصح إليوت بعدم نشرها. لم يجدها جديرة بأن تنشر. لو أن الناشر انساق لرؤية إليوت، ربما كان ملف الرواية قد طوي، وبقيت مجرد مخطوطة نائمة في الأدراج قد لا يعلم بأمرها أحد.
لا ينقص أورويل المجد الأدبي الكبير حتى بدون هذه الرواية، فمنجزه الإبداعي، إن في الرواية أو في أدب المقالة، كان كافياً لتخليد اسمه، وليست «1984» الرواية الأجود في منجز الرجل، ولكنها أصبحت روايته الأكثر شهرة ورواجاً. هو نفسه قال بعد أن فرغ من كتابتها: «فكرة جيدة ولكني أفسدتها».
سنطالع في سيرة أورويل ما قد يضيء قوله هذا. كان الكاتب مصاباً بمرض السل، الذي أودى بحياته وهو بالكاد يلج السابعة والأربعين من عمره، مذكراً إيانا بمصير الكاتب الروسي أنطون تشيخوف، الذي مات هو الآخر بالمرض نفسه عن أربعة وأربعين عاماً فقط. وكان أورويل على يقين من أن موته بات وشيكاً، وهذا ما وقع فعلاً بعد شهور، لذلك كان على عجلة من أمره، وهو يكتب الرواية، التي كانت فكرتها تؤرقه، ويريد أن يراها وقد أصبحت على الورق.
لعل ما حمل أورويل على القول بأنه أفسد فكرة الرواية، آت، على ما رأى النقاد فيما بعد، من غلبة المباشرة والتقريرية على بعض أجزائها. وجرى التوقف، خاصة أمام ما يمكن أن يعدّ ملحقاً في نهاية الرواية خصصه لشرح اللغة المستخدمة في الأنظمة الشمولية، الذي غدا بالمناسبة مرجعاً للباحثين في تحليل الخطاب الشمولي، رغم أنه أقحم على البناء الروائي، ولا يتسق مع إيقاعه.
يذكر أن الناشر طلب من أورويل حذف هذا الملحق بالذات للاعتبار المشار إليه، لكنه جوبه بالموقف المتشدد من الكاتب الذي أصرّ على نشره، قائلاً: إما أن ينشر، أو لا تنشر الرواية كاملة.
لماذا نجحت الرواية إذن كل هذا النجاح وخلدّها تاريخ الأدب العالمي، وما زالت تطبع في ملايين النسخ بمختلف لغات العالم حتى اللحظة؟ من كتبوا عن الرواية، وبينهم الراحل جلال أمين، رأوا أنها تدخل في خانة الكتب المحظوظة، التي تأتي في وقتها، حين يلتقط الكاتب فكرة لم تخطر على بال سواه، تستشرف المستقبل، فتبدو، بعد حين، بمثابة النبوءة، حتى لو لم يقصد كاتبها ذلك.
جريدة الخليج