في ذكرى وفاته الثلاثين، تتذكر دبي، بطريقة مختلفة، قائدها وباني نهضتها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي فارقنا يوم 7 أكتوبر من العام 1990م، إذ جاء إطلاق اسم «راشد» على المشروع الإماراتي لاستكشاف القمر، بمثابة تخليد لسيرة هذا القائد الذي حلم بمستقبل دبي بشكل استثنائي.
لم يكن راشد حاكماً عادياً، بل كان مخططاً متميزاً لمستقبل دبي ونهضتها. فقد حظي راشد بملكة قوية ألا وهي الحدس الكبير بالأحداث المستقبلية ومآلاتها، وبالتالي كانت خطواته في مجال التنمية الاقتصادية محسوبة ومقدرة. وما تخطيطه لمدينة دبي إلا شاهد على صدق الحدس الذي تمتع به، والذي قاد نهضتها وتحوّلها في زمن قياسي من مدينة صغيرة إلى ميناء عالمي يضجّ بالحركة والحياة.
لم يكن راشد يملك من الإمكانيات المادية ما يكفي لتحويل أحلامه إلى حقيقة واقعة، فلم تكن إمارة دبي حين تولّى حكمها في العام 1958 تمتلك النفط أو عوائد مالية أخرى.
ولكن العارف بالأمور يدرك بأن شهرة ونهضة دبي لم ترتبطا أبداً بالموارد الطبيعية أو بتوفّر المادة، فدبي اشتقت شهرتها من تفوّقها التجاري ومن نبوغ تجارها الذين حوّلوا رمال دبي إلى ذهب عبر الاستثمار الأفضل لموقع دبي وخورها الذي يعد شرياناً حيوياً ربط أجزاء دبي ببعضها البعض ووصلها بالعالم. فعلى رمال الإمارة ظهر ميناء دبي الطبيعي.
حيث كانت السفن تجوب البحار تحمل البضائع من شبه القارة الهندية إلى الخليج وموانئ فارس وبعض الموانئ الأفريقية.
كان نغم الحياة بسيطاً للغاية، ولكن أحلام راشد كانت كبيرة. فمنذ الستينات كان راشد يفكر في ميناء ضخم يستطيع أن يخدم السفن العملاقة الكبيرة، وهكذا ظهرت فكرة ميناء جبل علي الذي تحول في فترة قياسية من ميناء غير معروف إلى أشهر ميناء في منطقة الشرق الأوسط.
وكما فكر راشد في النقل البحري فكر أيضاً في النقل الجوي، ففكرة مطار دبي نبعت من فكر راشد الذي رأى ضرورة وجود ميناء جوي يسرّع حركة النقل، ويمكّن الإمارة الصغيرة من الارتباط بالعالم في سهولة ويسر.
كانت مشاريع الشيخ راشد المستقبلية تتبلور في ذهنه قبل أن يحولها إلى واقع، عبر التصدي لكافة العقبات الاقتصادية والمالية التي يمكن أن تقف في طريقها، فلم تكن كلمة مستحيل موجودة في قاموسه رغم صعوبة الأوضاع وشح الموارد، إذ كانت لديه القدرة على أن يخطط لكل مشروع من جميع النواحي بما فيه النواحي المالية، وما أن يكاد ينتهي من مشروع عملاق، حتى يبدأ في التخطيط لآخر، بصورة تجعل دبي تواكب مدن العالم الكبرى مع اختلاف الإمكانيات المادية.
لقد ورث راشد تلك العبقرية والرؤية المستقبلية من أسلافه، وأورثها إلى أبنائه الذين حوّلوا دبي إلى مدينة تضج بالحياة والحركة، وميناءها إلى ميناء حيوي تفده تجارة الترانزيت التي تغذي شبه القارة الهندية ومناطق الخليج الأخرى. وبنى راشد مدينة تعد اليوم علامة مسجلة بين مدن العالم، حيث لا يمكن ذكر مدن العالم المهمة من دون الإتيان على ذكر دبي التي أصبح لها مكانتها وعلامتها الخاصة وأنموذجها المتميّز في البناء والتنمية.
إن دبي سوف تظل وفية لإرث راشد وماضية على الطريق الذي تمناه لها، ألا وهو الأنموذج التنموي القوي القادر على الصمود وسط كل تقلّبات الاقتصاد العالمي.
فعلى الرغم من تذبذب الأوضاع الاقتصادية في العالم، إلا أن ما يميّز دبي هو قدرتها على تطويع الأزمات وتحويلها إلى فرص واعدة، ويرجع السبب إلى أن راشد والمؤسسين الأوائل قد خلقوا من دبي أنموذجاً اقتصادياً قادراً عبر التخطيط الجيد على البقاء والاستمرارية، وسط كل التقلبات والتحديات التي غالباً ما تحدث على الساحة العالمية.
إن راشد سوف يظل في ذاكرة دبي تلك الشخصية الاستثنائية التي استطاعت التغلب على كل المعوقات، وخلق فرص جديدة ليس فقط لاقتصاد دبي، ولكن لاقتصادات منطقة الخليج وآسيا.
وسيظل راشد الأب المؤسس وصاحب الفكر الاقتصادي الفذ الذي وجد في كل تحدٍ اقتصادي أو سياسي فرصة جديدة لخلق مستقبل أفضل للأجيال الجديدة.
وكما استفادت الأجيال الحالية من تخطيط راشد لمستقبل دبي، فإن أجيال المستقبل ستستفيد من البناء على فكر راشد من خلال أبنائه وأحفاده الذين ورثوا العبقرية الاقتصادية والتخطيط المتميز لدبي. فدبي المستقبل تستقي أسسها من دبي الماضي التي وضع لبناتها راشد وأسلافه.
* جامعة الإمارات
جريدة البيان