د. عبد الله الغذامي يكتب: خاتم شيرين

عبداله الغامذي

بأسرع ما يكون تحركت شيرين من جدة للقاهرة لتقف إلى جانب والدها في المستشفى، ودخلت غرفته حيث كان لم يزل بوعيه، وأول ما دخلت عليه أخذ بيدها وقربها لفمه يشمها ويتحسسها، ولكن فجأة تغير كل شيء حيث أبعد يدها عنه وقال: ليش يا بنتي. 
كان قد لمس خاتماً بفص كبير يطوق أصبعها، وهو الذي رباها على القناعة والتعالي على مظاهر الدنيا، وها هو الخاتم الثمين يلطمه على وجهه، وهناك نطقت شيرين والدمع يغالب كلماتها لتقول: هذا خاتم (فالصو) يا بابا وقيمته أقل من مئتي ريال، وهنا قال الأب حسناً يا بنتي هبيني رضيتها منك الآن، ولكن ما شعور فتاة فقيرة غلبانة ترى خاتمتك هذا.. هل ستقول إنه فالصو أم ستشعر فقط بالحرمان..!! 
 موقف لم تكن شيرين تتوقعه من حمزة شحاتة أبيها الذي رباها على القيم الإنسانية وعاش حياته كلها إنسانياً، وكانت أمنيته أن يدرس بناته الخمس في كلية الطب لكي يفتح مستشفى يعالج الفقراء بالمجان، وها هو خاتم شيرين يصدم أحلامه ويصدم تربيته لأن هذا الخاتم سيكسر خاطر بنت غلبانة لا تملك ما يكفي قوتها، وسترى معاني العوز والحرمان عبر خاتم يلمع على إصبع بنت حمزة شحاته…!! 
 كان الموقف صعبا ويختصر تاريخ الأديب الرائد حمزة شحاته، وما كان يمثله من قيم طبقها على نفسه قبل أن يطلبها من الناس.
 هنا أخذت شيرين الخاتم ورمته من نافذة الغرفة للشارع، وهي تبكي بين يدي والدها، فأخذ الأب يد بنته وقربها لشفته وقبلها واحتضنها بروح أبوية هي عهدها به، وظل يهمس لها بكلمات في معنى الحياة، ونصيب الإنسان من هذه الحياة.
 وهنا تقول شيرين لاحظت عيني والدي تشخصان للأمام وتفتحت عيناه تفتحا لم أشهده فيه وصار ينظر للبعيد من أمام وكأن بصره قد اخترق الجدار أمامهم، هذا وهو الفاقد لبصره من قبل بسبب ارتفاع السكر الذي أتلف بصره، وحين سألته شيرين: بابا هل ترى شيئاً هناك…؟ 
 أمسك الأب بيد ابنته الخالي من الخاتم ووضعه على شفته وقال: إشششششششششش. 
 وامتد الصوت للحظات وكأنه يرى ويسمع ولا يريد أي مقاطعة، وكلها لحظات وإذا به يسلم روحه لبارئها، ويقرر الطبيب وفاة الشاعر الأديب حمزة شحاتة لتطير الصحف في التأبين والتباكي على رمز أدبي هز فقده أركان السعودية ومصر حين ذاك (1973).
 ** سمعت القصة من شيرين نفسها رحمها الله ورحم والدها، حين كنت أعد مواد كتابي الخطيئة والتكفير، وكان حمزة شحاتة هو مادة ذاك الكتاب.

جريدة الاتحاد