كنت قد طرحت قبل عقود فكرة حول ثنائية الفصحى والعامية في ثقافتنا المعاصرة وقدمت هذه المقولة «تعميم الفصحى وتفصيح العامية» لتكون حلاً للغة التواصل العام والشفاهي منه خاصة، وتعني أن تترقى العامية لتلامس الفصحى وتتنازل الفصحى لتسلك على الألسنة دون تغريب أو انفصال عن الواقع التواصلي، وأرى هذه القضية اللغوية قد أصبحت اليوم أكثر شدةً، حيث نشأ ميل قوي يفضل العامية في إعلانات الشركات والمنتجات وتسويق الخدمات، وساعدت وسائط التواصل الحديثة على ذلك، بحيث لم يعد استخدام العامية محرجاً للمسوقين أو دلالة نقص ثقافي، بل تبدى وكأنه اختيار وتفضيل يستحسنه فاعلوه ويتصورون أنه يساعد على تسويق منتجهم.
وقد جربت نقد هذه الظاهرة مراراً في تغريدات على «تويتر»، وتأتيني ردود من الجمهور العام تخالفني الرأي وتميل لتحسين فكرة الأسلوب العامي في التسويق خاصةً، ومع عدم قناعتي بهذه الفكرة، وموقفي السلبي منها لما يزل نقدياً، وأجزم أن الفصحى ليست عائقاً أمام نشر أي إعلان أو ترويج أي منتج، فالناس بكل تأكيد لن يجدوا صعوبة في فهم النص الفصيح منطوقاً أو مكتوباً، ولا أرى أي ضرورة عملية لاستخدام العامية في لغة التسويق، ولكن الملحوظ الآن هو وجود توجه ذوقي يستحسن العاميات ويستظرفها، خاصة مع تمكن العامية من لغة الأفلام والتمثيل والأغاني، ومعها لغة النكتة والحكي اليومي وهذا جعل العامية تحظى بموقع ذوقي مباشر وواقعي، كما أن العاميات العربية بدأت تتقارب مع بعضها وتجد طرقها سالكة للوصول للناس في كل بقعة عربية مما يصنع لهذه اللغة أنظمةً من العلاقات عابرةٍ للحدود، ويضاف لهذا أن المتعلمين أصبحوا لا يترددون عن استخدام العامية في أحاديثهم، مع إجادتهم للفصحى لو أرادوها، وهذا كله صنع أرضية تسهل تقبل لغة التسويق في العامية، ولو تمعنا في عامية لغة التسويق لوجدناها تمزج الفصيح بالعامي، وكثيراً ما تكون العامية صوتية على مستوى نطق الكلمات فحسب، أكثر منها في معاني المفردات والدلالات، مما يعني أنها تغيير صوتي مع دمج لمفردات محلية، لكنها ليست مستعصية على الفهم المشترك، وهذا عامل آخر لترويجها لأن المعلن يجدها غير معيقة لمهمته ولا يجد استنكاراً لها، وهنا سنجد أنفسنا أمام مستوى لغوي أخذ طريقه في التشكل وسناده القوي هو تقبل الناس له، وسنكون أمام خطاب لغوي يضاف لخطاب التمثيل وخطاب الأغاني وخطاب الأفلام، وهو خطاب التسويق، وكأنه نوع من تعميم الفصحى أو تفصيح العامي، بدرجة وسطى بين العامية والفصحى، مما يجعلنا أمام لغة تواصلية وسيطة تجمع المتفرقات وتصنع منها خطاباً عاماً وظيفته تسويقية وأهدافه ربحية، وهذا مظهر أسلوبي يتشكل بقوة بسبب حالة القبول العام له.
جريدة الاتحاد