من الواضح أننا نعيش بأجساد وليس جسداً واحداً، ما بين جسد الطفولة إلى جسد الشيخوخة، حيث نمر بأجساد بعدد مراحل العمر وتقلبات الحياة، وفي المقابل، فإننا نعيش بمنظومة عقول، كما منظومة الأجساد، وعقلنا الطفل غير عقلنا الشيخ وبينهما عقول، وتتغير ضرورات العقل ومعطياته كتغير شروط الجسد ومقدراته، وعلامة ذلك في المعقولات وتغيراتها الظرفية، والمثال الذي استخدمه أفلاطون عن بشر في كهف وللكهف فتحة واحدة تسمح لدخول نور الشمس من خلف ظهور الرجال المقيدين، ويعكس النور صوراً على الجدران للمارة من الناس وكل ما يراه المساجين في الكهف هو حركاتٌ شبحية للعالم الخارجي تتحرك دون نظام مستقر وبكثافات تتنوع قلةً وكثرةً وهذه هي خلاصة خبرتهم عن العالم في هذه الصور الشبحية، وتشكلت تصوراتهم وذهنياتهم تبعاً لهذه المعطيات المحددة، ولكنّ واحداً منهم تمكن من الخروج ليرى ضوء الشمس الطبيعي ويرى البشر والوقائع ويكشف سر الشبحيات التي كانت تنعكس أمامه وتشكل معنى العالم عنده، وهذه قصة مجازية توضح لنا حال عقولنا مع معقولاتنا، وكل معقول عندنا هو خلاصة ظرفية لتجاربنا التي تصل لأذهاننا وتتشكل منها صيغة واقعنا وصيغة وعينا ومفهومنا، وإذا تغير الظرف تغيرت معه معقولاتنا كما تغيرت معقولات الخارج من كهف أفلاطون، في حين بقيت معقولات زملائه عند حد مرئياتهم، هكذا حال تحولات الإنسان ومعقولاته حسب ظرفه الذي هو فيه، وإذا تغير الظرف تغيرت المعقولات معه، وتظل كذلك في تحول مستمر مثل تغير الأجساد عبر مراحلها.
وإن كنا نجنح لاستخدام مفردة العقل بصيغتها الفردية وكلما أحال أحدنا للعقل، فإنه في الحقيقة يقول (عقلي) بياء المتكلم وإن نطقها بصيغة الإطلاق، وحين نستخدم كلمات العقل والمعقول فلسنا نقصد عقل غيرنا، بل إننا غالباً نرفض عقل غيرنا ومعقولات غيرنا، وهنا ندرك مخاتلة المفاهيم ومفهوم العقل خاصةً، حيث يتبدى لنا أنه مفهوم متين ومتعمق ونركن له لنقيس به سائر المفاهيم ونظل نعتقده أداةً قوية لا تخون من يعتمدها، ولكن الأمر ليس كذلك، فالعقل مراوغٌ بطبعه وبطبيعة تكوينه حسب تقلبات معقولاته وتحولاته الثقافية والظرفية، وكذلك بسبب طريقة توظيفنا له، حيث نسلم بأننا نملك عقولاً ثاقبة ونعتمدها في الحكم والقياس ونتصرف تبعاً لها رغم أننا نكتشف دوماً أن أحكامنا تتبدل وتتغير مع تغيرات الظروف أو تغيرات الحجج، ولا عيب في التغير، فهو ضرورةٌ معاشية وضرورة منطقية وهو أمر واقعي ومشهود.
والطريف أن عقلنا الذي خدعنا ابتداءً يأتي لنجدتنا ثانية ليبرر لنا أي تغيير يطرأ ونظل نصف الجديد بالعقلاني، كما وصفنا السابق بالعقلاني حين كنا نقول به، ومع ذلك نظل في حال غرور متصل يجعلنا نثق بعقولنا ونعلي العقل على أي قوة أخرى في الذات البشرية، والفلسفة تقوم على العقل وتمجيد معطياته ومن هنا تدخل العيوب على الفلسفة مثلما تدخل على سائر معطيات الإنسان في السياسة والعلاقات العامة معاً، وتفضي هذه كلها إلى منظومة من المتغيرات التي تتأثر بحال ما نحن فيه من ظرف نرى فيه أنفسنا مجبرةً على تغيير مواقفنا باستمرار مطرد.
د. عبدالله الغذامي يكتب: عقل أم عقول؟
جريدة الاتحاد