مكفّناً بالصمت الجلل رحل الروائي وعالم الإجتماع حليم بركات في 23/6/2023 عن تسعين سنة. وبالصمت الجلل قضى سنواته الأخيرة في دار العجزة، بريئاً من عالمنا، وحيداً في عالم ألزهايمر، ملوعاً لأنه لم يتعلم لغة “طائر الحوم”، وما كان يرى نفسه إلا صنواً لهذا الطائر العابر للقارات في ترحال دائم. بل ما كان يرى في أبيه أيضاً إلا “طائر الحوم”. وفي الرواية التي تعنونت باسم هذا الطائر، يسأل حليم أمه عما إذا كانت هي أيضاً طائر الحوم. ومثل الطائر تسكن قرية الكفرون السورية حليم بركات، وهو الذي غادرها قبل العاشرة، يتيم الأب، ليلحق بأمه مريم التي سبقته إلى بيروت إثر رملتها، فَحُقَّ أن يشبهها من شبّه بكاملة والدة جبران خليل جبران في حمل فراخها إلى أميركا، ووحّد الوالدتين عملهما خادمتين وهدفهما النبيل: أن يتعلم الأولاد.
هكذا تعلم حليم إسبر بركات – باسمه الثلاثي – في بيروت حتى حمل الماجستير من الجامعة الأميركية عام 1960. ولعل العلامة الفارقة كانت له في السابعة عشرة عندما انتسب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه وقاده من افتتن به مع حليم أدونيس وفؤاد رفقا ومن قبل يوسف الخال وسواهم من رواد الحداثة الفكرية والأدبية. ومن تلك العلامة الفارقة أن حليم بركات تعلق بصفية ابنة أنطون سعادة، وكان أن حيل بينهما، ولم يطل من بعد مقامه في الحزب. وقد جاء من ذلك ما جاء في رواية حليم بركات السيرية “المدينة الملونة” -2006 سوى أن اسم صفية صار في الرواية صبا.
سكنت قرية الكفرون حليم بركات مثلما سكنت الشاعر فؤاد رفقا (1930-2011) الذي غادرها في مثل سن حليم عندما غادرها. دُفنَ فيها عملاً بوصيته. وثمة من ينسب يوسف الخال (1917-1987) أيضاً إلى الكفرون، ولكن أغلب المراجع تنسبه إلى قرية عمار الحصن السورية. ولئن كان حليم بركات قد ثلّث النسب: سوري، لبناني، أميركي، مثلما ثلّثه أدونيس أو خالدة سعيد: (سوريا – لبنان – فرنسا)، فقد دأب حليم بركات على توكيد سوريته، كما يدلّل السجال بينه وبين يوسف الخال، حين كتب الأخير في جريدة النهار اللبنانية (6/10/1960) أن أدونيس شاعر لبناني مولود في إحدى قرى جبال العلويين في سوريا، فعقّب حليم بركات في الجريدة نفسها تحت عنوان “أدونيس ليس شاعراً لبنانياً”، داعياً يوسف الخال إلى التمييز بين الوطن والنظام القائم فيه، ومذكراً: “أنت يا يوسف لست لبنانياً”، ومشدداً على أن لبنان ليس بلداً ديمقراطياً لأنه يعتمد نظاماً طائفياً. ولم يورث ذلك السجال خصاماً، كما يُفترض أن تكون الاختلافات أو المعارك الثقافية. في محاضرة له في دمشق (8/6/2006) ذكر حليم بركات أنه كتب باكورته الروائية “القمم الخضراء” وهو طالب جامعي، وأنها فازت بجائزة سليمان المدرس، وقد صدرت عام 1956، ومن أسف أنني لم أتمكن بعد من الاطلاع عليها.
“ستة أيام” قبل النكسة بسنوات
غير أن ما كرس اسم حليم بركات كروائي هو روايته التالية “ستة أيام” التي أصدرتها عام 1961 دار مجلة شعر. وكان يكفي أن تصدر هذه الدار/المجلة – وعلى رأسها يوسف الخال وأدونيس وسواهما- عملاً ليتكرّس هو وصاحبه. وقد ذاعت رواية “ستة أيام” لما قدّر النقاد والقرّاء أنه نبوءتها بحرب الأيام الستة عام 1967 أي بالهزيمة أو النكسة، قبل نبوءة رواية نجيب محفوظ “ثرثرة فوق النيل” – 1966. بيد أن حليم بركات كان يتحفظ على “نبوءة” روايته، ويفضل القول بالوعي بالواقع العربي في تلك الرواية.
ينذر العدو قرية دير البحر بالاستسلام أو الإبادة. وترفض القرية فتأتي عليها المعركة. ومن الشخصيات المحورية في الرواية سهيل العائد من أوروبا والعاشق لناهدة، فيحول اختلاف الدين بينهما، وهي ابنة الشهيد. وتكلف دير البحر سهيل بالاستنجاد بالدولة الشقيقة، لكن “الإنقاذ” لا يصل. وليس “الإنقاذ” بالإشارة الوحيدة إلى رمزية دير البحر لفلسطين. والرواية بالتالي، كما يؤثر حليم بركات القول، هي عن نكبة فلسطين 1948، والأيام الستة هي أيام الخلق، وليست أيام حرب يونيو (حزيران) 1967. وهذه الرواية هي الرواية العربية الثانية عن نكبة 1948 بعد رواية عيسى الناعوري “بيت من وراء الحدود” – 1959، وستتلوها عام 1962 رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس”. وقد عدها أستاذنا الكبير الراحل عبد الكريم الأشتر أفضل روايات النكبة. أما الياس خوري فتحدث عن ثلاثية حليم بركات “ستة أيام” – 1961، “عودة الطائر إلى البحر” – 1969، “الرحيل بين السهم والوتر” – 1979)، فقد كتب أن حليم بركات الذي “يفضح كل شيء دفعة واحدة”، هو أول كاتب عربي يخرج بموضوع النكبة من الرومانسية الباكية “إلى الانتماء الواعي الأصيل”.
في “عودة الطائر إلى البحر” معاينة الروائي والرواية لهزيمة 1967. فالأستاذ الجامعي رمزي الصفدي يحضر من بيروت إلى عمان والقدس ونابلس وجنين… ولهذه الرواية ريادتها المتمثلة بتسريد الأساطير والموسيقى، حيث الهولندي الطائر رمز للعربي وللفلسطيني بخاصة. ويمضي رمزي الصفدي بهذا الرمز إلى شخصية “الفدائي” فيراه “الجسر الوحيد الذي يصل العرب بالمستقبل، ويعبر بهم سور المأساة، لذلك لن يستريح العربي في اليوم السابع”. وقد أخذ الناقد الأردني إبراهيم خليل على هذه الرواية أنها مثقلة بالخطب في المجتمع والدولة. وكان حليم بركات قد أعدّ لهذه الرواية عندما مضى مع عدد من طلبته في الجامعة الأميركية في بيروت إلى مخيم زيزيا جنوب عمّان، وأقاموا حيناً للبحث في أوضاع اللاجئين، ومن ذلك كان كتاب بركات “نهر بلا جسور”. وهو يعلل بذلك، ومجمل اهتمامه بالقضية الفلسطينية سبب عدم ترقيته في الجامعة الأميركية حيث درّس بين عامي 1966-1972، فغادرها إلى جامعة هارفرد، فجامعة أوستن قبل أن يستقر به المقام في جامعة جورج تاون.
وفي رواية “الرحيل بين السهم والوتر” يلتحق بطلها نائل البدري الشاب الجامعي العراقي بالمقاومة الفلسطينية في لبنان. لكن وكد الرواية يبدو في تفكيك التخلف الاجتماعي وبخاصة عبر بؤرة المرأة فيه، في ازدواجية المثقف الثوري، وفي الحضارة الغربية الاستعمارية كما يصفها نائل البدري.
الشأن السياسي
شغل الشأن العام السياسي الروايات السابقة لحليم بركات، ممثلاً بخاصة بالقضية الفلسطينية وهزيمة 1967 وما يتصل بها. وعبر ذلك تسلّل من السيرة الذاتية ما تسلل. لكن السيرة ستغدو سداة ولحمة روايات حليم بركات التالية، وعلى نحو ينادي بامتياز التخييل الذاتي، ولمن يشاء: السيرة الروائية والرواية السيرية. وقد كانت البداية في “طائر الحوم” – 1988. وكان هو قد عدها في حوار مع مجلة “أخبار الأدب” القاهرية (25/6/2006) سيرة ذاتية تتأمل المنفى. كما كان قد تحدث عن رواية المنفى في كتابه “المجتمع العربي في القرن العشرين”. وقد تصدّر الرواية هذا المقطع الزجلي: “تفرّج يا حبيب وشوف / حليم بركات ع المكشوف”.
يظهر الكاتب في الرواية باسمه، وهو ما كان قد سبق إليه غالب هلسا في روايته “الخماسين” -1975 وعبد الحكيم قاسم في روايته “محاولة للخروج” – 1980 وكاتب هذه السطور في رواية “المسلّة” – 1980 وسيلحق بهم كثيرون بالاطراد مع تواتر الروايات السيرية والسير الروائية.
تحضر في “طائر الحوم” قرية الكفرون والطفولة القروية وصولاً إلى الزواج والدراسة في جامعة ميشيغن ومن بعد في أرجاء أميركا. ومن ذلك ما سوف يتوالى حضوره بصيغ شتّى في رواية “إنانة والنهر” – 1995. أما الرواية السيرية بامتياز فهي “المدينة الملونة” – 2004، حيث تقنّع الكاتب باسم نادر الكفروني، وكان لذكرياته البيروتية حضور خاص، منذ ما قبل العهد بعشق الرفيقة صبا – صفية أنطون سعادة – إلى ما يسميه الحرب الأهلية الثانية:
عمل حليم بركات أستاذاً جامعياً وباحثاً وعالم اجتماع عشرات السنين، فكان لنا من ذلك مؤلفات كبرى، وبخاصة في الاغتراب، وأزمات المجتمع المدني والهوية، والعدالة، والحرية، حتى قال مايكل هدسون: “حليم بركات هو إميل دوركايم علم اجتماع العالم العربي”. ومن كثيره المميز نذكر: “المجتمع العربي في القرن العشرين: بحث في تغير الأحوال والعلاقات” و”الهوية: أزمة الحداثة والوعي التقليدي”- 2004 و “الاغتراب في الثقافة العربية” – 2006 و “حرب الخليج” – 1992 و “غربة الكاتب العربي” – 2017 … وعلى رغم هذا الإنتاج الغزير والمكانة العلمية الرفيعة التي تبوأها حليم بركات، ها هو يصدعنا في حوار مع “جريدة الرأي” الأردنية (14/9/2007) بقوله: “بدأت بالأدب وأريد أن أنتهي بالأدب”.
حليم بركات الروائي وعالم الاجتماع توقع النكسة باكرا