جيزيل محل نابليون – بقلم إنعام كجه جي

إنعام-كجه-جي

رفعت بلدية «روان» تمثال نابليون من مكانه. بقيت القاعدة فارغة بعد أن واصل وقوفه عليها طوال 155 عاماً. إن أهالي تلك المدينة الجميلة في مقاطعة النورماندي الفرنسية لا يطلبون الإمبراطور بثأر. لكن العادة جرت على صيانة المقتنيات العامة وترميمها وطلائها بشكل دوريّ. لذلك ذهب نابليون للتصليح على أمل العودة. لولا أن ريحاً هبّت على المدينة، وانتخب الأهالي رئيساً جديداً للبلدية.
العمدة الجديد، المسيو نيكولا ماير روسينيول، ينتمي إلى الحزب الاشتراكي. يعني من أهل اليسار والثورات. وهو ينوي تكريم جيزيل حليمي. محامية فرنسية مناضلة فارقت الحياة قبل شهرين عن 93 عاماً. وقد تفتق ذهن العمدة عن استغلال غياب نابليون لكي يقترح وضع تمثال لحليمي في مكانه. ونشر تغريدة قال فيها إنه يتحمل «مسؤولية البعد الرمزي القوي لموقفه»، ذلك أن النساء غير ممثَلات بشكل كاف ولائق في الساحات والشوارع. هناك في المدن الفرنسية تماثيل لمئات القادة والرؤساء والعلماء والمفكرين والفنانين، غالبيتها الساحقة لرجال تقف على شنباتهم الصقور.
أثارت رغبة العمدة زوبعة متوقعة. وهو لم يتراجع لكنه طلب أن يستفتي آراء الروانيين والروانيات، نسبة إلى «روان». كما نفى شائعة تدمير التمثال الذي يزن 7 أطنان بطول 4 أمتار. قال إنه سيجد لنابليون مكاناً آخر. 7 أطنان من البرونز جاءت من صهر مدافع الأعداء في معركة «أوسترليتز» التي انتصر فيها الإمبراطور الفرنسي على إمبراطوري النمسا وروسيا، عام 1805.
منذ انتفاضة السود في الولايات المتحدة بعد مقتل جورج فلويد، بدأت انتفاضة موازية في العالم. الأبناء والأحفاد يثورون ضد تماثيل القادة من رموز الاستعمار الأبيض الذي استغل أجدادهم. وكان هناك جدل في مصر، مؤخراً، حول إعادة تمثال المهندس الفرنسي فرديناند دو ليسبس إلى رأس قناة السويس. وأصدر اتحاد الكتّاب بياناً جاء فيه أن الجماهير أسقطت التمثال أثناء العدوان الثلاثي، وبهذا فإن إعادته تشكل إهانة لأرواح 120 ألف فلاح مصري قضوا في حفر القناة.
أما حملة نابليون على مصر فما زالت موضع خلاف كبير. هل كانت تنويرية أم استعمارية؟ واعترض مثقفون مصريون على إعلان ترويجي لجامعة فرنسية جديدة في القاهرة. والإعلان يسرد الإنجازات العلمية لتلك الحملة وينتهي بعبارة: «شارك في حملة نابليون بونابرت 2020»! وأكاد أسمع التعليقات الساخرة للمصريين على سذاجة العبارة.
نترك الإمبراطور ونعود إلى المحامية المولودة في ضاحية حلق الواد في تونس. درست جيزيل حليمي في باريس وناضلت، منذ خمسينات القرن الماضي، من أجل استقلال الجزائر عن فرنسا. اشتهرت بدفاعها عن جميلة بوباشا، المجاهدة في حرب التحرير التي كانت مهددة بالإعدام. ونجحت المحامية الشابة، يومذاك، في تحويل المحاكمة إلى منبر إعلامي لفضح التعذيب في السجون والاغتصابات التي مارسها العساكر الفرنسيون في الجزائر.
بعد الاستقلال، حافظت المرأتان على صداقتهما وكانتا مثل شقيقتين. لا تُذكر جيزيل إلا وتُذكر جميلة. وطوال أزيد من نصف قرن، ظلت المحامية الشجاعة حاضرة في كل معارك تحرير المرأة. تكتب المقالات. تترافع في قضايا الحق الخاص والعام. تقود المظاهرات. تشارك في الندوات والمؤتمرات. ولم يمنعها كونها يهودية أن تتصدى للدفاع عن المقاوم الفلسطيني مروان البرغوثي، أحد أشهر المعتقلين في إسرائيل. امرأة قاومت الظلم بمختلف أشكاله. عاشت حرّة وماتت تاركة تاريخاً إنسانياً ثرياً. ألا تستحق أن يترك لها الغازي نابليون مكانه؟

جريدة الشرق الاوسط