ترعرع وسط الثورات الكبرى، المضخمة، والممتدة والمترسخة.. ثورة الشيوعيين كانت لما تزل منقشعة أمام العيون، شهية كثمار طازجة، عالية كجدران بلا حدود، وترعرع كذلك بين هَوَس الثورات الأخرى، الطليعية، كالمستقبلية في روسيا وإيطاليا وألمانيا مطلع القرن، والتي فجرت الدادائية، ثم السريالية بمراحلها وتحولاتها، وحيطانها المتجددة على يد «قائدها» بروتون، وذات التراكيب المعقدة، والشخصيات المكثفة والصفيقة في آن واحد، كدهاليز وأقبية مر بها جميعاً… كمن يمر بحلم في ليلة صيف، وهرب منها كتلميذ يقفز من فوق جدار المدرسة إلى حقل أو إلى رصيف أو إلى مقهى.. هذا هو الشاعر الفرنسي الكبير جاك بريڤير (1900 – 1977).
كأنه كان يرسم الأشياء.. البيوت.. الكلمات.. السقوف.. الطيور.. الشجر.. الأقفاص.. بيديه.. أو بعينيه.. أو بالهواء وبدخان سيجارته، فتمحيَ للحظات، أو تنطوي كذكرى، عالم هش، شفيف، عابر، عالمه عالم بلا زمن، ولا فضاءات، ولا صروح، ولا بروتوكولات ولا شعائر ولا طقوس، ولا حتى معالم، إنه عالم يشبه المسرح، عمّر ما يعرض وينتهي، يقوم وينهدم ويلمع ويختفي، في هشاشاته، وفي توليه: ولنقل أيضاً إنه عالم من مخيلة الأطفال، أشكال تخلق أشكالاً وترميها.. أشكال من ماء، أو من رمل، أو من لا شيء، أو فلنقل أيضاً إنه عالم بلا تراجيديا، بلا آلهة، أي من تلك الصور التي تصنعها وتفتّ بين الأصابع… أو تسيل وراءها.
عالم بريڤير من فصول حميمية قريبة، ومن تفاصيل التفاصيل، تنتبه إليها ولا تراها، وتراها، إذا ما أراك إياها الشاعر، تدهشك، أو تخلبك، أو تفتح لك فجأة رصيدها السحري، لكن من دون أثقال أو معدن أو حجارة، هكذا فجأة في الغرفة، أو على الرصيف، أو المقهى، أو إزاء وجه أو شجرة أو عصفور، أي إزاء ما يحيط بك وتظنه من غياب عاداتك، ومألوفاتك، ثم وبخيط مخفي، أو بإيماءة أو بإشارة، ينقلب المألوف إلى عناصر مخيلة، إلى مواد شعر خام، لكن بخفة بخفّة، وبشفافية بشفافية، خوف انحطامها أو انكسارها، أو عبورها، هنا تتذكر بليز ساندرارز وأرصفة باريس، والأزقة.. وهنا تتذكر الشاعر بول ڤرلين، لكن من دون فجائعه وتوباته، وهنا تتذكر ليون بول فارغ العابر بشغفه بالأشياء، وهنا تتذكر أراغون في «فلاح باريس»، حيث للمألوف دهشة الانكساف، وهنا تتذكر ريتسوس شاعر التفاصيل المفتوحة على الفتنة، والأسى، والمغادرة، لكن من دون عبرة، حتى ليلتبس الأمر عليك أحياناً حول من منهما أخذ من الآخر: ريتسوس من بريڤير، أو بريڤير من ريتسوس، وتغلّب أثر الأول في الثاني ولاسيما عندما ينسى ريتسوس مناخ «تراجيدياته» الأفريقية، أو هواجسه السياسية.
على أن «طفولة» بريڤير تبقيه في الحيز المختلف، وفوضويته ترسم له عالماً بلا هالات ولا كاتدرائيات ولا تماثيل، عالماً من «الحكايات»، واللحظات… والمشاهد… يرويها كحكواتي تشبّع من «أساطير» المدينة الصغيرة.. حكواتي يوقظ الأطفال على «خرافاته» ويُنيمهم على أحلامهم، ومن هذه «الحدوته» يتمتم.. يتمتم.. كلمات تسمعها وتنطرب لها.. شعر شفوي.. مرويّات مهموسة، وإن أحياناً لحدود الهجاء المرّ، أو السخرية العابثة، لكنها تبقى مرويات، ذلك أن بريڤير لم يبحث عن كتابة معقدة. ولا سعى إلى قصيدة مركبة، فهو لا يحب التوغل كثيراً في دهاليز اللغة والحالات والدواخل كالشاعر هنري ميشو مثلاً، ولا رفع أمامه حيطان اللغة لينطحها وتنطحه كما فعل الشاعر الفرنسي مالارميه، ولا ضرب الضربة الكثيفة المغلّفة بالفلسفة والغموض، كما فعل رينيه شار، ولا واظب مواظبة منهجية في علاقته الصفيقة بالأشياء كما فعل فرانسيس بونج. ولا حلّق بلا جذور فوق القارات والتواريخ والعناصر كما فعل سان جون برس، ولا كسر أو حطم أو فجر كما فعل السورياليون عموماً، وقبلهم أسلافهم القريبون الدادائيون، لا… مع أنه انخرط في لعبتهم وتحت «إدارة» بروتون مدة لكنه قفز من النافذة… وهرب، ثم هجا صاحب «البيانات» بقصيدة لاذعة هي «الجثة»… تذكرك بهجاء السورياليين أناتول فرانس وبالعنوان ذاته.
فبريڤير لم يصغ كما قلنا القصيدة المتوغلة أو المركبة.. قال الشعر المروي، الفطري، الحي، القريب… قاله ببساطة الحكواتي.. وببساطة أن تتنفس أو ترى أو تمشي أو تفتح نافذة، لكنها بساطة مليئة بفخاخ الفتنة، مليئة بفخاخ الأسرار، فهي ليست من تلك البساطات «المعممة» المتناسخة، وإنما خاصة وطازجة، يقودها بريڤير بمكر. يسوق عناصرها بشفافية، مما يمنحها رشاقة وصفاء وسهولة وجسداً حياً، وهو في استخداماته اللغوية، سواء لعب ككينو أو كأبولينير، او أفلت السجية (المفخخة)، بلا مقابل، يبدو أحياناً كثيرة كيميائياً مقنّعاً بالبساطة، يعرف كيف يجمع الطباقات في صور متباعدة مفاجئة، وكيف يؤلف جناسات، وكيف يعابث الإيقاعات بسخرية، ولكن من دون افتعال، أو ادعاء مغامرة، ولهذا بقيت «صناعاته» غير مفضوحة: و«قطبه» مخفية، منسابة في حركتها المرتاحة، وفي قرب، وفي ألفة، وفي عمومية، أوليس هذا ما يفسر أنه الشاعر الفرنسي الأكثر رواجاً، وشعبية في فرنسا القرن العشرين، وهو الوحيد، في ظل أزمة كساد الشعر وكتبه، الذي تجاوز مبيع دواوينه المليون نسخة، إنه ظاهرة خاصة في الشعر الفرنسي… ظاهرة على حدة، ولا نقول هنا: إن «التخلف» يغذي هذه الظاهرة، ظاهرة الرواج، كما الحال عندنا مع بعض شعراء القضايا أو شعراء المقالات الصحافية المنظوم، حيث لم يسلم شعره من أيديهم، وإنما كون بريڤير يعبر، إلى ما أشرنا إليه عن روح مدينة، وروح مرحلة… وعن حرية تلقائية حتى الفوضوية في تعامله مع موضوعاته وأشيائه وناسه.
جريدة الاتحاد