صباح الجمعة/ اليوم الأخير من تلك السنة البعيدة البعيدة، كتبت رسالة واتسية للصديق سيد محمود: “يتّمنا جابر يا صديقي”، فردّ: “الله يرحمه. قصة كبيرة غابت”. ولأن الموت الذي يظل مفاجئًا مهما توقعته وانتظرته عَقَلَ لساني، لم أكتب ردًا أو إخبارًا طوال ذلك اليوم البعيد البعيد إلا تلك العبارة، بينما كلمات سيد محمود الثلاث تخفق في صدري، كل مرة.
قصة كبيرة غابت، أي أنها لم تنته، وربما هي قصة لا تنتهي، ويمكن أن تحضر في أي لحظة، ودومًا، بأي شكل. لذلك: جابر عصفور قصة كبيرة غابت. أما الموت، فليس لمثل هذه القصة، ليس لمثل جابر عصفور غير بداية أخرى من بداياته التي توالت في عمره القصير القصير.
في غياب قصة مبدعٍ استثنائي في النقد والفكر، في الثقافة وفي الحياة، مثل جابر عصفور، تستأثر بالضوء مؤلفاته ومساهماته، ويبقى في الظل ما في سيرته الشخصية مما تشتبك به سيرة من يكتب/ تكتب عنه، مهما يكن فيها ما هو مفيد، أو ضروري، سواء بالنسبة لكتابات (القصة)، أو لحياتها وشخصيتها. وقد كنت دومًا من مؤيدي ذلك، تعويلًا على ما أحسبه اليوم وهمًا أو مبالغة، لا أدري من أي (عقلانية)، أو (موضوعية)، ركباني، بتقديم الكتاب على صاحبه، فكان لي ـ مثلًا ـ كتاب (الاحتفاء) الذي أوقفته على غياب قصص/ أصدقاء (بوعلي ياسين ـ هاني الراهب ـ سعد الله ونوس…).
تُراه وحده غياب قصة كبيرة/ جابر اليوم يوقظني على أن الشخصي في الكتابة من الغياب/ الرحيل/ الموت لمن هم مثل جابر، ليس أقل أهمية من الكتابة من المؤلفات، أو المساهمات؟
لقد مرّ حينٌ حرصت فيه على أن أكتب (احتفاءً) عن غياب من يخطفهم الموت فجأة وغدرًا ورحمة أحيانًا، من مرض، أو شيخوخة ممضّة: عبد الرحمن منيف، رياض الصالح الحسين، إميل حبيبي، أمل دنقل، حنا مينه، جورج طرابيشي و… حتى قبضت على نفسي متلبسًا بثوب الندابة، فآثرت الصمت، وبخاصة أن الغياب قد أخذ يفتك بالجسد الثقافي، كأن لم يكفه فتك السنوات العشر الزلزالية الفائتة. هل أعدد من سنة 2021 فقط من الأصدقاء والصديقات: مريد البرغوثي، وعز الدين المناصرة، وسماح إدريس (الفلسطيني أيضًا وأيضًا)، وحسان عباس، وليلى الأطرش، وسعدي يوسف، وميشيل كيلو، و…؟
“لقد مرّ حينٌ حرصت فيه على أن أكتب (احتفاءً) عن غياب من يخطفهم الموت فجأة وغدرًا ورحمة أحيانًا، من مرض، أو شيخوخة ممضّة، حتى قبضت على نفسي متلبسًا بثوب الندابة، فآثرت الصمت”
ورغم ذلك، لزمت الصمت حتى همس جابر صباح ذلك اليوم البعيد البعيد: اكتب! فغالبت ما عصفني به من القهر والذهول والعجز، وكتبت: كانت البداية في ذلك الكتاب الضخم الذي بات ركنًا من أركان مكتبتي سنة صدوره (1983)، أعني: (المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين). فقد تعرفت من جديد على طه حسين كما لم أعرفه من قبل، رغم ادعائي بما كنت أعرف منه وعنه. وتعرفت لأول مرة على جابر عصفور الذي سيصحبني بعد سنوات إلى مكتبه في الجامعة، وسيقول بمهابة وغبطة واعتزاز: هذا ما كان مكتب طه حسين. عندئذٍ امتلأت يقينًا بأن طه حسين هو أمثولة وأيقونة وحلم جابر عصفور. وسيتعزز اليقين كلما سلّمت على صورة/ لوحة طه حسين في مكتب جابر، حتى إذا تولى وزارة الثقافة قلت: ها قد اكتمل فصل حاسم من فصول القصة، ولهذا الحديث تتمة ستلي.
كنت قد نشرت في عام 1980 كتاب (النقد الأدبي في سوريا)، وفي عام 1982 كتاب (مساهمة في نقد النقد الأدبي). ولم يكن كتاب تودوروف قد ترجم بعد إلى العربية، ولم أقرأه بغيرها. وكنت سعيدًا بأن يكون ذانك الكتابان رائدين لنقد النقد. لكن (المرايا المتجاورة) جعلتني أحني الرأس إجلالًا، وإقرارًا بتقصيري العلمي عما حققه جابر عصفور الذي قدّم أول دراسة تطبق نقد النقد حسب المنهج البنيوي.
“لزمت الصمت حتى همس جابر صباح ذلك اليوم البعيد البعيد: اكتب! فغالبت ما عصفني به من القهر والذهول والعجز، وكتبت”
لكن جابر سيكتب لي في رسالة من الكويت مذكّرًا ببداية أبكر، تعود إلى عام 1980، عندما جمعتنا سهرة مع أمل دنقل، ولا أذكر الآن من كان رابعنا. والسهرة لا تُنسى، لأن سجالًا عنيفًا ـ لماذا لا أقول شجارًا ـ نشب بين أمل دنقل، ورابعنا الذي عيّر أمل بـ(العمالة) ليوسف السباعي، فوقعت الواقعة. أما فصل الوزارة من فصول القصة، فقد كان أوله عندما فاجأ جابر عصفور الجميع وزيرًا للثقافة، بينما القاهرة تمور أيام ثورة 25 يناير 2011.
لم أصدق عيني وأنا أراه يقسم اليمين أمام الرئيس. وكل من اتصلت بهم من أصدقائنا المشتركين كانوا عجبًا وذهولًا.
بعد عشرة أيام استقال جابر، وخلال تلك الأيام الاستثنائية، كان عدد من المثقفين من أصدقائه، وممن يقدرون كتاباته ودوره وشخصه، قد كتبوا معترضين على قبوله التوزير، ومعاتبين، وكنت بين هؤلاء. وبعد حين قصير، بلغني استياءه الشديد مما كتبت، وأخبرني الصديق المشترك سليمان العسكري، الذي كان رئيس تحرير مجلة “العربي”، والذي كتب مثلما كتبت، أن جابر لا يصدق أن يفعل صديقه نبيل ما فعل، “وكان الأولى أن يكتب لي مباشرة، وليس بالجرايد”. وقد جرّ ذلك القطيعة بيننا حتى الرحيل الفاجع لابنته سها.
***
في فصل ذلك النهار البعيد البعيد، الذي تجلّل بالفقد، مما تلقيت، أنقل عن سليمان العسكري “سنعيش فراغًا بعده”، وعن علوية صبح: “آه يا نبيل/ جابر يموت/ لا/ جابر ما بيموت”. وعن عبده خال: “يا الله! وسقط مصباح آخر”. وعن يمنى العيد: “كان لي أستاذًا أو صديقًا وراعيًا لمساري. أعلن حدادي وأغصّ بدموعي” و…
لمثل هذه الكتابات أن تحضر، ليس فقط لأنها حارة وفورية، بل لحقها في أن تبقى، بل وتتصدر، حين تنغلق بغياب قصة كبيرة/ جابر، بخلاف أوهامي القديمة.
***
في كل سفرة إلى القاهرة قرابة ثلاثين سنة، كان لي في منزل جابر، مع صديقات وأصدقاء، سهرة واسعة، وسهرة ضيقة، وسهرات يومية أخرى. والآن تغمرني السهرة الأولى بفيوض الصداقة وحب الحياة والسهر والغناء وأصوات علي أبو شادي، وهالة فؤاد ـ يا رب: أية كلمات تفي بعزاء هالة في جابر ـ وشهرت العالم، وأحمد مجاهد، وعماد أبو غازي، الذي اتصلت به هاتفيًا لأنقل إليه نبأ تعيينه وزيرًا للثقافة، قبل التعيين بيوم أو اثنين، وكنت على يقين من ذلك، وقد كان، وهو ما يصدقه ولا يصدقه عماد ولا أنا حتى اليوم.
أما السهر في كل سفر، ما عدا واحدة أثناء القطيعة التي حاول الصديق سيد محمود، والصديق الروائي المغربي بهاء الطود، وسليمان العسكري، أيضًا، رأبها، فما أكثر وأمتع وأثرى ما كان مثلها في الكويت، وفي تونس، وبخاصة في اللاذقية، وفي قريتي، أثناء أكثر من دورة لمهرجان المحبة.
“بلغني استياءه مما كتبت حول قبوله التوزير، وأخبرني سليمان العسكري، الذي كان رئيس تحرير مجلة “العربي”، والذي كتب مثلما كتبت، أن جابر لا يصدق أن يفعل صديقه نبيل ما فعل، “وكان الأولى أن يكتب لي مباشرة””
مع جابر ودعت 2021 بعدما أقعدتني الأنفلونزا الحادة لليوم الخامس. ومع جابر أستقبل 2022 مبتدئًا بيوم سادس يلاعب زائرة أبي الطيب المتنبي التي كأنْ ليس بها حياء، فلا تتخفى في ظلام. ولكن ما لي ولها ولأبي الطيب، فالوقت كله لغياب قصة كبيرة/ جابر عصفور، لذلك أتهجد له وبلسانه بما يتهجّد به أبو حيان التوحيدي: “أين موقفي وتوقفي، وأين تصرّفي وتصوفي، وأين تعسفي وتفلسفي، وأين تحرقي وتشوّفي، وبياني وتبييني، وأين استنباطي وخططي، وأين سقامي ومحنتي، وأين أيني وإني وأني، وأين كوني وعيني وعني ومني وكأني؟”.