يفتتح الشاعر والروائي العماني زهران القاسمي روايته “تغريبة القافر” (دار مسكلياني 2021) بمشهد سينمائي آسر تتخطفه شخصيات عابرة، ولكن لكل منها علامتها الفارقة التي لا تنسى، مثلما سيكون شأن الشخصيات العابرة من بعد في الرواية كلها. وبتلك العلامة الفارقة – أو بأكثر من علامة – تتحول الشخصيات من نكرات إلى معارف، كما هو في المشهد الافتتاحي، الشايب حميد بو عيون الثمانيني ذو البصر الحديد، ولذلك سُمّي بو عيون، وكما هو سيف بن حمود الذي يجد لكل معضلة حلاً، والذي يأخذه الذعر عندما يحدّق في عيني المرأة الغريقة، فيصدعنا: “الغريقة تشوف، كلتني كلتني عيونها”.
للمشهد الافتتاحي حدثه المدوي الذي ستظل أصداؤه تترجّع في الرواية، وهو العثور على جثة مريم بنت حمدود غانم غريقة في البئر، بينما كان زوجها عبدالله بن جميل “البيدار” يعمل في الضواحي. وإذا كانت الغريقة وزوجها والوعري سلام ود عامور من الشخصيات المحورية في الرواية، فالشخصيات الثانوية تتوالى نكرات/ معارف. فخالة الغريقة، عايشة بنت مبروك تهدر أن في بطن الغريقة حياة، فهي حامل، والشيخ حامد بن علي يحكم: “بو فبطنها أولى به الدفن” أي “اللي” فبطنها. لكن بوعيون يعترض، وكاذية بنت غانم تشق بطن الغريقة وتُخرج الجنين حياً.
قصة الغريقة
يعقب هذا الحدث ملخص سردي لقصة الغريقة التي كانت أفضل من يطرّز الثياب في قرية المسفاة، والمبتلاة بالصداع. وقد كوى المداوي رأسها ليبرئها مما قدّر أنه الشقيقة، لكن الصداع لم يكُن ليتبدد إلا حين تدخل مريم رأسها في عمق البئر، قبل أن تدفنه في الدلو. وطالما حلمت مريم بحبل البئر، حتى إذا أفاقت فجراً، ومضت إلى البئر، أمسكت بالحبل مستجيبةً للهمس الذي يناديها من أعماق البئر: “تعالي تعالي”. وبهذه الميتة، ثم بالدفن حيث لا يفتأ المطر يملأ القبر، كما بولادة الطفل الذي سيحمل اسم سالم، تبدأ الغرائبية تلعب في الرواية. ولنسرع إلى القول إن ذلك غالباً ما يتعلق بالطبيعة العمانية الفريدة، مثلما يتعلق بالحدث أو الفضاء أو الشخصيات.
تبكر الرواية إلى تصوير الريح الجنوبية التي تعصف بالقرية، حيث ينقلب الصيف شتاءً وتهجم السيول، فيفرّ الناس إلى المغاور.
وبعد الخراب، يعيد الناس الحياة إلى المسفاة. وعلى المرء أن يتهجّى أسماء عناصر الطبيعة العمانية التي تطرز الرواية: شجرة الزام والسدر والغاف والنخيل والسمر والأثل والحبن والحلف وطيور الرقراق وأم البوبوة والثعالب والوعول والظباء والأرانب… أما المياه في الينابيع والأفلاج و…، فشأن آخر هو الأكبر في الرواية، كما سيلي.
الحب والطبيعة
يقترن حضور الطبيعة بتجليات الحب في الرواية. فعندما حضرت نصرا صغيرة مع أمها إلى بيت كاذية بنت غانم، ورآها سالم ابن الغريقة: “سكنت في داخله مثل سكون الينابيع في قلب الحجر”. وعندما رآها كبيراً، بدأ ينصت إلى ينبوع ضئيل يسيل متدفقاً خجلاً في أعماقه، وهاتان الصورتان هما من أرومة ما سيكون عليه شأن سالم مع المياه والأفلاج، مثل صورة آسيا التي أرضعت سالم وسكنها كطفلها، فلمّا ناداها أول مرة ماماه، “بكت بحرقة كفلجٍ نشيط رُفع الصوار عن قنواته”.
بمتابعة الغرائبي كعلامة كبرى لرواية “تغريبة القافر”، هوذا سالم ود الغريقة طفلاً يلصق أذنه بالأرض كأن أحداً يناديه من الأعماق، ثم يصيح: ماي ماي، فتخاف عليه آسيا من المسّ والمرض. وقد نهشته الألسن جراء ذلك، مستعيدةً غرق أمه، وصار الجميع يتحاشونه ما عدا فتاة مشلولة، فتوقف عن الإنصات إلى خرير المياه الجوفية لينجو من الألسنة. ويتواتر حضور الجن معززاً الغرائبي، وآية ذلك الحكاية التي يتذكرها سالم وهو يواجه نهايته التراجيدية. والحكاية تعزو حفر الأفلاج إلى النبي سليمان، حين مرّ بعمان على بساط الريح، وعطش، فهبط ليشرب، لكن البلاد قاحلة، لذلك أمر الجن بحفر الأفلاج، فحفروا في الصحاري والوديان، وشقوا الصخور والجبال، حتى قيل إنهم حفروا أكثر من ألف فلج في ليلة واحدة. وكان سالم الذي سيُعرف بما لقّبته به كاذية بنت غانم: “القافر”، قد اختفى بعد زواجه بنصرا، فقيل لها إن أهل الأرض السفلية أخذوه من الفلج، وقيدوه في بلادهم حيث لا موت ولا حياة.
ولما طال الاختفاء، أخذ أهل نصرا يلحفون عليها بالزواج، فجددت الأسطورة الإغريقية التي جاء بها هوميروس في “الأوديسيا”، فترفض بنيلوبي زوجة أوديسيوس، ملك إيثاكا الزواج بعدما طال غياب زوجها، متعلّلةً بحياكة كفن لحميها، وكانت تنقض كل ليلة ما حاكته في النهار. أما نصرا، فكانت تغزل الصوف، وتسمّي كل خيط باسم واحد من الأفلاج التي دخلها زوجها. وقد سمّت خيطاً بـ”العفريت” لأنها سمعت حكاية فلج العفريت الذي يُقال إن عفاريتَ من الجن شقوه في ليلة واحدة. وكان كل خيط يستغرق أشهراً، “وكل حكاية تنسجها تكبر وتكبر، الخيوط تتوالد، والأفلاج تتكاثر، والأسماء التي تمنحها إياها لا تُنسى ولا تتشابه”. وبذلك امتدت عدّة نصرا بعد رملتها، فدأبت على القول: “من يقولْ لي المغزل خلصت، تكون عدّتي خلصت، وأكون أنا جاهزة” وهذا ما لن يكون.
حكاية الخاتم
في حكاية الخاتم الذي ورثه مسيعيد من أبيه، أن للخاتم أعمالاً روحانية تكرّم حامله وتعلي من شأنه في عيون الناس، وهو ما جعلهم يقدّرون والد مسيعيد حتى مماته. ولكن للخاتم دعواه في ضاحية القعتة حيث كان مسيعيد، وحيث يسكن سالم ونصرا. فالخاتم ينادي من يسكن ذلك المكان الملعون، بصورة تتبدل كل مرة، وهذه المرة جاء بصورة ماي (ماء) نادت سالم، فلبّى النداء حتى الاختفاء، لتتحدث القرية من بعد عن امرأة تجلس قرب حافة بئر الغريقة، تضع يديها على الحافة وتحني عنقها مدخلةً رأسها في البئر لمدة طويلة، فتردد الألسن أن الحرمة تسمع كلام أهل الطوي، وتردد أن الغريقة مريم تكلم هذه الحرمة نصرا، كما كانت تكلم ولدها سالم.
ولا ننسى رزيق بن خميس الذي تتشنج أطرافه ويسقط ويرتجف حتى “قالوا” جاءته صاحبته الجنية. ولا ننسى أيضاً ضحكة عبدالله بنجميّل التي “تردد صداها على جدران بيوت الحارة، وتناقلتها سفوح الجبال، سُمِع على إثرها في أقاصي الحارة مواء قطط تصيح خوفاًورفرفة طيور غريبة في بقايا الأشجار الميتة“. وقد كان ذلك بعد 15 عاماً من حدث الغريقة أم سالم، حين أخذ مجنون القرية يجوبها، مردداًأن القيامة ستقوم قريباً، وحين رأى الشايب حميد بو عيون في المنام ناراً تجتاح البلاد، ثم مرض ومات. وحلّ صيف كارثي ما بقي فيه إلاالنبع الذي يسيل من صخرة في مزرعة الوعري.
حاولت القرية أن تشق الفلج فأخطأت، وصحح سالم/ “القافر” وأبوه الخطأ. وفي هذا السياق، تأتي حكاية الشايب سليمان الذي عاشمترحلاً يبحث عن الأفلاج التي تقبر الماء خلف جدرانها الصلدة، فيفتحها. كما تأتي محشورة حكاية جدّ سالم، فتبطئ السرد الذي لا يفتأيتفتق ويسيل عذباً من حكاية إلى حكاية، ويبدو أن غمارها هو ما جعل الكاتب يسوّق بعضها في ملخص سردي يبطئ السرد أيضاً. لكن كلذلك يتلاشى في ما يبدو مهرجاناً للحكايات واحتفالية سردية، تتوج برحلات/ تغريبة “القافر” مع أبيه خمسة أعوام، يسبقهما صيت ودالغريقة الذي يصغي إلى نبض الماء في مجاهل الأرض ويحدد أين يكون الفلج.
صوت الأب
في قرية المسيلة، يحطّ “القافر” وأبوه رحالهما. وثم يتزوج القافر من نصرا، وينهار سقف القناة على الأب الذي يتولى السارد صوته، فيرسلالسلام إلى كاذية وإلى الوعري مودعاً، ويخاطب ابنه محذراً: “باه بلادك ما بلاد، البلاد اللي تاكل كل أموالك بلاد فاجرة، البلاد بو تستغلكوتاخدك تمرة وبعدين ترميك فلحة ما بلاد، باه سالم دوّر على بلاد غيرها، البلاد بو تنكر جميلك ما تستحق تعيش فيها ساعة“. وإذا كانصوت الأب يبدو هنا أسيراً لصوت السارد، فهو يتحرر من الأسر وينطلق ملتاعاً عندما يذكر الغريقة، ويخاطب ابنه: “عطشان أسمع صوتأمك، أسمع ضحكتها، باه صوت أمك جنّة، ويداها كانت حياة“.
توقف “القافر” بعد موت أبيه عن قفر الماء، وعاد إلى المسفاة. وفي قمة نجد تلة النوح حيث اختار أن ينأى، بدأ الحفر في صخرة صماء،حتى قيل جنّ “القافر“، وها هي النكرة/ المعرفة جميلة الملسونة تنقل لنصرا سخرية الألسن من “القافر“. ويشرح السارد أن هذه الشخصيةالعابرة التي تكلم نفسها فلا يفقه أحد شيئاً، وإنما تردد بلكنتها ولثغة لسانها وسرعته: “مشي خير فهالدنيا“، وقد لقّبت بالملسونة لأن لسانهالا يهدأ حتى وهي نائمة.
يميز “القافر” بين المياه الكريمة القريبة من السطح والمياه المخادعة التي تسكن الطمي والتربة الرخوة، ومياه الوديان المخزنة بين الحصىوالرمل، وتتعلق بالأمطار، وتلك العيون التي تسكن الصخر ويهواها “القافر“، وقد استجاب أخيراً لمحسن بن سيف الآتي من بلاد ميتة(الغبيرة)، وبدأ شق الفج الناشف بينما أخذ الصداع يدهمه، ويتذكر حكايات مربيته كاذية بنت غانم عن الصداع الذي كانت أمه تعانيه،وحتى إذا جرفه الماء إلى أعماق الفلج، جاءت المشهدية السينمائية البديعة التي افتتحت الرواية لتختمها، ولكن بالشخصية المحورية وحدهاهذه المرة: سالم الذي يرى مغمياً طيف أمه تنتشله وتمدده تحت شجرة، ويرى طيف كاذية شابة تحمله وتغني له. وفي يقظته، يصارعالأسماك الصغيرة العمياء التي تأكل من جروحه، ويتذكر حكاية أحدهم عن بخّار المساجين في قلعة الرستاق حيث يُدلّى السجين بحبل، ثميفلت في الحفرة الأسطورية، ويدور حول عمود ضخم من الجص، يتحسس تحت قدميه بقايا عظام من سبقوه، ويُسمَع صراخه وأنينه حتىيخبو الصوت.
هكذا انتهت “تغريبة القافر“، بينما أبدعت الرواية في تمثّل فن التغريبة التي تقترن عادة بالجماعة، بينما هي هنا لفرد لا يفتأ يتأسطر فيحكايات تتناسل وتتغيّا بما يوشي اللغة الروائية من المحلي والعامي.