تشيخوف وبوشكين كانا هناك – بقلم د. حسن مدن

حسن مدن

«أنا أحتقر الكوليرا، لكنني مضطر إلى أن أخاف منها كالآخرين. بطبيعة الحال لا وقت لدي للتفكير في الأدب. متعب أنا، ومنزعج للغاية. لا مال لدي، ولا وقت. الكلاب تنبح بعنف، هذا يعني أنني سأموت بالكوليرا.. أعطوني 25 قرية لأعالج سكانها، ولم يعطوني مساعداً واحداً. كيف لي أن أفعل ذلك وحدي»؟
بوسعنا فقط أن نستبدل مفردة «الكوليرا» بمفردة «كورونا»، لنخال أن الوارد أعلاه كتبه، اليوم، طبيب شاب وجد نفسه في بلدة نائية في وطن من الأوطان، حائراً أمام العدد الكبير من المصابين بالفيروس، من حوله، والعدد الكبير ممن يموتون منهم بسببه، نظراً لقلة الحيلة، ونقص الإمكانات.
الكلام كتبه في نهاية القرن التاسع عشر الكاتب الروسي أنطون تشيخوف الذي كان طبيباً، وليس كاتباً فقط. كانت «الكوليرا» اجتاحت روسيا، كما العالم كله، بين عامي 1891- 1892، وأودت، يومها، بحياة الملايين. والكلام ورد في رسالة إلى صديقته ليديا. وفي رسالة أخرى إلى ناشره كتب تشيخوف: «خلال تفشي الكوليرا، سيعلنون الأحكام العرفية، وسيلبسوننا الزي العسكري، وسيرسلوننا إلى أماكن الحجر الصحي للعمل. سنقول وداعاً لسهرات ليالي السبت».
ليس تشيخوف وحده من عمالقة الأدب الروسي من عاش زمن «الكوليرا». مثله عاشه شاعر روسيا الأكبر الكسندر بوشكين، لكنه كان أحسن حظاً من تشيخوف، فلم يكن طبيباً على خط الدفاع الأول في مواجهة الوباء، وإنما في محجر صحي في استراحة نائية، فبحلول نهاية صيف عام 1830، ومع مجيء الخريف، فصله المفضل، وصل وباء «الكوليرا» إلى مقاطعة نيجني نوفجورود التي صادف وجوده فيها، وتمّ تطويق المنطقة، وعزلها لوقف انتشاره.
وعلى خلاف تشيخوف لم يشعر بوشكين بالإحباط، وإنما بالرضا، والارتياح. وجوده في الريف، بعيداً عن المدينة أبهجه، فجعل الأشهر الثلاثة التي قضاها هناك فرصة لإنجاز المعلق من أعماله، وفي مقدمتها روايته الشعرية: «يوجين أونيجين»، التي ستغدو من أشهر كلاسيكيات الأدب الروسي، فضلاً عن إنجازه لأعمال شعرية أخرى مهمة.
لاحقاً، كتب بوشكين لصديق له مستسلماً للاكتئاب، بسبب ما أشاعته «الكوليرا» من إحباط في النفوس: «الكآبة أسوأ من الكوليرا. الثانية تقتل الجسد فحسب، والأخرى تقتل الروح، الحياة لا تزال غنية، ابنتُك ستكبر وتصبح عروساً، ونحن سنتحول إلى عجائز متحجّرين، وزوجاتنا إلى همهمات قديمة، لكن أطفالنا سيكونون جميلين، سوف تذهب الكوليرا، وإذا كنا لا نزال أحياء نرزق، فستنالنا، نحن أيضاً، حصة من الفرح». تلك نصيحة «بوشكينية» عابرة للزمن.

جريدة الخليج