لم يبرح ساحة الكتابة إبداعاً وفكراً وإعلاماً ولم ينسحب من ساحة النقاش والجدل والاجتهاد يوماً ولا يؤمن باستراحة المحارب
يحتفل أدونيس بتسعينيته في الأول من يناير (كانون الثاني) 2021، فقد ولد بداية يناير 1930، 90 عاماً وهو في كامل شبابه الفكري والإبداعي والسجالي، لم يبرح ساحة الكتابة إبداعاً وفكراً وإعلاماً، ولم ينسحب من ساحة النقاش والجدل والاجتهاد يوماً، لا يؤمن باستراحة المحارب، يتضاعف عدد محبيه والمؤمنين بأفكاره وبإبداعه الذي يزداد. في الوقت نفسه، عدد خصومه القادمين، هذه الأيام، بشكل خاص من ساسة ثورات الربيع العربي ومن أهل الإعلام المتناغم مع هذا الربيع الجائح.
تسعون عاماً وكل عام وأنت بإبداع وخير، أدونيس.
أدونيس مثقف الحضور الحاضر، واقف لمدة 75 سنة ضد التيارات التي يراها غير منسجمة مع مسار نهر التاريخ الذي يصب في محيط الإنسانية، مُوقداً باستمرار نار النقاش على كل الجبهات، في الدين والتدين والسياسية بيسارها وقومييها ويمينها وإسلامييها، وفي الأدب شعره وروايته ونقده، وفي التراث والإعلام الثقافي المسموع والمرئي والمكتوب، وفي الجامعات ومراكز البحث.
أدونيس لم يترك معركة إلا ودخلها، بالعزيمة ذاتها، وبالإيمان الفكري والثقافي نفسه، من دون تجريح أو إقصاء أو إلغاء، لكن بوضوح فكري لا غبار عليه، يناقش من دون حساب الخسارة والربح، بل بقناعة فكرية يجتهد في صياغة مسوغاتها ومآلاتها.
تسعون عاماً وكل عام وأنت بألف نص وخير، أدونيس.
أدونيس، نسيه الزمن والأعوام، فظل المثقف في المنطقة العربية وشمال أفريقيا الذي حافظ على طفولته في الفكر، وفي الحياة انتصر على الزمن فظل على شبابه الفكري والإبداعي، وتلك قوة لا يملكها إلا القلة.
إن حضوره الثابت والعنيد مجسداً في الحفر المتواصل في المعرفي والديني والسياسي بطريقة منسجمة ومتصاعدة، يذكرني بما يقوم به الفيلسوف الفرنسي إدغار موران وقد بلغ الـ 100 سنة، ولا يزال يكتب ويناقش ويحاضر.
هي ظاهرة عربية ومغاربية بامتياز، إذ من عادة غالبية المثقفين والمفكرين والأدباء العرب والمغاربيين، أن يبدأوا حياتهم الفكرية والإبداعية بالانتساب للثورة سياسة، وللعقل تنويراً، وللحرية الفردية مرافعة، ولحقوق المرأة دفاعاً مستميتاً، لكن مع تقدم العمر حيث الانغماس شيئاً فشيئاً في روتين اليومي وصخب الاجتماعي وبرودة الأسري وضجر الوظيفي، تبدأ رحلة التراجع والإنكار والتنكر والتبرير، فيتحول جراء هذا الحال غالبيتهم إلى ما يشبه الدراويش أو الفقهاء، أو دعاة قدريين متنكرين ونادمين على ماضيهم وطالبين المغفرة، تصريحاً أو ضمنياً، على ما ارتكبه موقفهم السياسي وعقلهم التنويري وحلمهم التغييري من معارك زمن الشباب.
وإذا كانت هناك بعض الاستثناءات، وهي موجودة ما في ذلك شك، لكنها الاستثناءات التي تؤكد هذه القاعدة، وعلى رأس هذا الاستثناء يقف أدونيس منسجماً ومتناغماً مع رؤيته التي يدافع عنها منذ أزيد من 75 سنة، بطبيعة الحال في كل مرحلة من مراحله الفكرية والإبداعية، وبالقناعة نفسها كان أدونيس يحفر أكثر في العطب الذي يسكن العالم العربي، مما يسّوس الفكر ويشوّه الإنسان ويجوفه.
وعلى مدى قرن من الزمن تقريباً، لم يتوقف أدونيس يوماً عن تحريك الجامد وإدانة المعطّل للحياة عند العرب، ولم يترك معركة لم يدخلها، فكان بذلك دائماً هدفاً للسياسيين من التيارات الإسلامية والقومية وحتى من اليسار العربي الذي ضاع ما بين الانسجام مع الأنظمة الوطنية العسكرية أو المقاطعة والمقاومة، ومن الأدباء بانتماءاتهم الجمالية المختلفة، ولم ينج من الصحافة التي كثيراً ما شنت حملات ضده، من بيروت إلى بغداد إلى طنجة مروراً بتونس والجزائر، بسبب تصريح أو مقالة أو حديث أو حوار طرح فيه ما لا ينسجم مع “فكر القطيع”.
لم يترك أدونيس موضوعاً شائكاً ومثيراً للجدل لم يطرحه في كتاباته، من العلمانية إلى حرية المرأة إلى السلام مع إسرائيل، مروراً بالإسلام السياسي والشريعة، وصولاً إلى فكرة الأسباب التي تهدد العرب بالانقراض، إلى هجاء المدن التي تشكل رمزاً ثقافياً في العالم العربي، وفي كل مرة كان أدونيس يتعرض لهجوم صاروخي من جميع المعاقل، وفي كل مرة لا يتراجع بل يؤسس لموقفه بنص يبقى أثراً بعد عين، كما يقول القدامى.
أدونيس المثقف الذي لا ينام، يعيش مستيقظاً بقرون استشعار حضارية وسياسية وإبداعية عدة، اختلف معه الأصدقاء والرفاق وخاصموه ثم عادوا إليه، وعاد إليهم من دون أن يتراجع أو يبيع قناعة بأخرى.
أسس منابر ثقافية وفكرية وإبداعية، فجمع حوله قوى التنوير في العالم العربي والشمال الأفريقي من كل اللغات، من جمال الدين بن الشيخ ورشيد بوجدرة وعبداللطيف اللعبي وغيرهم، وكان دائماً جسراً متيناً ما بين الثقافتين العربية والغربية، منذ أن ترجم ديوان “منارات” لسان جون بيرس في سبعينيات القرن الماضي.
لقد صاغ أدونيس مفهوم “المثقف” من خلال سلوكه هو، فلن يكون المثقف مثقفاً حقيقياً وفاعلاً رمزياً إلا إذا كان مزعجاً، والإزعاج هنا ليس مفهوماً سلبياً، بل هو رديف لمعنى التحريك والتفطين والتشويش على الإيمان الفكري الراكد من خلال التنوير، المثقف الذي يوصل المواطن – القارئ إلى طرح أسئلة ولا يقبل بالأجوبة الجاهزة، وهذا هو المثقف الذي يحتاجه المجتمع العربي والمغاربي، المثقف الذي يجعل المواطن يرفض من يفكر بديلاً عنه ويقرر مصيره نيابة عنه.
ظل أدونيس يكتب ويناقش ويبدع خارج القطيع، ضد كسل وخوف المثقف، وضد تبعية المثقف للمؤسسة الدينية أو السياسية، في شخصه تتجسد حرية المثقف العربي والمغاربي إلى أبعد الحدود.
لم يواجه خصومه بالسياسة، بل كان دائماً يدخل معاركه من خلال الفلسفة أو الفكر أو التاريخ أو الإبداع، بل هو الذي كان يجر خصومه السياسيين إلى جبهته الفكرية فينتصر عليهم. عاش مع القوميين ومع الشيوعيين ومع الليبراليين، وكان دائماً على مسافة منهم، مسافة الحرية، مسافة تصنعها له ثقافته وفكره وإبداعه ولغته.
ثبات أدونيس على مواقفه وهو في الـ 90 من العمر، مع تمنياتنا له بعمر أطول بكثير، تعري لنا الصورة النقيض، الصورة الأخرى للمثقف العربي والمغاربي المتخاذل الحربائي، الذي يتحجج بعامل تقدم العمر، فيتخذه وسيلة تبريرية لتنازلات سياسية أو فكرية أو دينية أو أيديولوجية، بالقول، “كان شطط الشباب”، “كنا شباباً متهوراً”، “هي رومانسية ثورية”، “هي مواقف غير مسؤولة”، “هي مراهقة فكرية” هو “زمن الصعلة”، وما إلى ذلك من عبارات ينفس بها عن خيبته وخسارته في معركة كانت شريفة ولا تزال كذلك، لكنه انسحب منها!
هكذا يبرر المثقف العربي تخاذله، ويسوغ تنازله على جبهة الفكر أو الفلسفة أو الفكر السياسي أو المواقف السياسية أو الإبداع أو الموقف من حرية المرأة. هكذا هي نهاية المثقف العربي والمغاربي، بشكل عام، والاستثناء يؤكد القاعدة، إذ من الدفاع عن العقل ضد الاستثمار السياسي في الدين لينتهي في صفوف المتعاطفين مع تيارات الإسلام السياسي، مبرراً كل شيء بالدين، بما فيها ضرورة إسقاط الأنظمة. ويكون مع حقوق المرأة وضد الحجاب فتجده في آخر أيامه يجرجر زوجة ابنة البلدة خلفه بالحجاب، يبدأ رحلته الفكرية بتمجيد الفكر المادي وينتهي باعتناق الفكر القدري الخرافي، يبدأ بالإيمان بالثورة وينتهي بالقول،” لن يصيبنا إلا ما كتب…” وهي النهاية التي تذكرنا بنهايات مجموعة من الممثلات اللواتي مارسن حياتهن بجمال وشهية أيام الشباب، لينتهين إلى داعيات قانتات يقدمن نصائح “التوبة” الملغومة.
حين يتنازل المثقف أو المفكر أو المبدع عن مواقفه، وهو الذي كان ذات زمن رمزاً للنضال والموقف الفكري والإبداعي، فإن جيلاً كاملاً سيصاب جراء ذلك بالخيبة الفكرية والسياسية، فمثل هذا الموقف المتخاذل يثير التشكيك في القيم الإنسانية الكبرى مثل “التنوير” والمساواة بين الجنسين والعلمانية وحقوق الإنسان، وهو ما يعيشه اليوم العالم العربي ممثلاً في جيل ضائع فقد كل أمل، وهو متشبث بوهم الماضي، معادٍ لكل محيطه الإنساني، وهذا هو الذي أنتج لنا الفكر المتطرف المتعصب الذي أساء لصورة الإسلام ولصورة العربي والمغاربي في العالم.
في تسعينية ميلاد أدونيس، نقول، قد تختلف مع أدونيس المفكر والمبدع، ولكنه يظل مثقف عصره المنسجم مع تاريخه والمتناغم مع أفكاره في معركته المتواصلة من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، عن حرية العقيدة والتعددية وحرية المرأة والمساواة بين الجنسين ومناهضة العنصرية، ومن أجل كتابة نص شعري جميل.
90 سنة ولم يتبدل أدونيس، بل تعمق أكثر، صار طفلاً أكبر، صار صادقاً أكثر.
www.independentarabia.com