تعريب حسن عثمان الرائد تعاد صياغته جماعيا ودار تورّط اسم سامي الدروبي
تحضر ملحمة الشاعر الإيطالي دانتي (1265-1321) “الكوميديا الإلهية” في الأدبيات العربية منذ العام 1927 عندما كتب قسطاكي الحمصي عن دانتي وملحمته في مجلة “المجمع العلمي العربي” الصادرة في دمشق وطرح مقولة تأثر دانتي بـ “رسالة الغفران”، وتطرف في رأيه معتبراً أن دانتي “سرق أفكار المعري وصوره، وقال: “كان جديراً بدانتي أن يتخذ المعري، وليس فرجيليو دليلاً ومرشداً في رحلته الخيالية”. وفي العام 1930 عمد كامل كيلاني إلى تلخيص “جحيم” دانتي. لكنّ الحدث “الدانتوي” تجلى في العامين 1930-1931 مع الترجمة شبه الكاملة لـ”الكوميديا” التي أنجزها نثراً وعن الإيطالية مباشرة المترجم اللبناني شبه المجهول عبود أبي راشد. وفي العام 1936 لخص دريني خشبة “الكوميديا” عن الإنجليزية ونفى تأثر دانتي بالمعري وأشار إلى صور قرآنية ومن الإسراء والمعراج، واردة في متنها. ثم أعقبه في 1938 المترجم الأردني أمين أبو شقرا عام 1938 الذي عرّب “الجحيم” نثراً عن الإنجليزية وصدر في القدس. وكان لا بد من انتظار الباحث والمترجم المصري حسن عثمان لينطلق في ترجمته الكاملة والفريدة لـ”الكوميديا” العام 1949 وقد تطلّبت منه عشر سنوات من الجهد والدأب المتواصلين. ولم يقدّر له أن يرى الجزء الأخير “الفردوس” مطبوعاً، فهو صدر بعيد رحيله في العام 1968.
غير أن السجال حول تأثر دانتي بالمرجعيات الإسلامية، انطلق نقدياً وعلمياً في الأربعينيات مع المستشرق الإسباني آسين بالاسيوس الذي رسّخ مقولته عن الأثر الذي تركه الإسلام في عمل دانتي الرهيب هذا، ثم تلاه المستشرق الإيطالي كيدو بللاتي ششولي في الخمسينيات الذي بحث عن أثر “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري في “الكوميديا”، ثم المستشرق والباحث الفرنسي الشهير رينه غينون وسواهم، وركزوا جميعاً على اطّلاع دانتي على معجزة الإسراء والمعراج وعلى فتوحات ابن عربي والحكايات الشعبية الأندلسية عن المعراج، عطفاً على المرجع الرئيس “رسالة الغفران”. كانت لأبحاث هؤلاء المستشرقين ردود فعل أدبية وفكرية في المعترك العربي وراحت كوكبة من النقاد العرب الرواد تتصدى للأثر الإسلامي في فكر دانتي ومخيلته، وكان في الطليعة زكي مبارك وشوقي ضيف وجرجي زيدان وطه حسين وبنت الشاطئ وسواهم. بعضهم أيّد مقولة الأثر أو التأثر وبعضهم رفضها وبعض آخر كان في موقف “البين بين”. ومازال بعض الباحثين والنقاد العرب حتى اليوم يتطرقون إلى العلاقة الملتبسة بين دانتي والمرجعيات الإسلامية، من غير أن يتوصلوا إلى أحكام ثابتة وجازمة.
تحديث ترجمة
بعد بضعة أشهر تحل الذكرى الـ700 لرحيل شاعر إيطاليا واللغة الإيطالية دانتي ألليغيري، وأرادت دار المتوسط (إيطاليا) أن تحتفي بهذه الذكرى على طريقتها، فارتأت “إعادة إنتاج” ترجمة حسن عثمان لـ “الكوميديا الإلهية” لدانتي بحسب ما جاء في بيانها. وكلَّفت لجنة من الأكاديميين والمترجمين المتخصصين في الترجمة ونقل التراث بين اللغتين الإيطالية والعربية، بدء العمل على هذا المشروع الصعب والشائك. واللافت أن الدار وسمت المشروع بـ”إعادة إنتاج” ترجمة عثمان، والمقصود حتماً إعادة صياغة هذه الترجمة التي تمّت عن الإيطالية، ورتق بعض الهنات فيها وسبكها والأهم تحديثها وجعلها أقرب إلى القراء المعاصرين. وهذا ما فعلته على سبيل المثل دار المشرق اللبنانية في تحديث الترجمة الكاثوليكية لـ”الكتاب المقدس” التي أشرف عليها وصاغها ببراعة ومتانة العلامة النهضوي إبراهيم اليازجي، كي تصبح في متناول القراء المعاصرين. أما المترجمون فهم بحسب الدار من المترجمين المتخصصين في ترجمة التراث ونقله بين اللغتين الإيطالية والعربية وتساندهم مجموعة من الأكاديميين المتخصّصين في تاريخ القرون الوسطى وآدابه ولاهوته، وفي لغة دانتي والبلاغة الجديدة التي أسسها، وفي الأدب المقارن. وتضم مجموعة المترجمين: أمارجي، الاسم الأدبيُّ للشَّاعر والمترجم السُّوري رامي يونس، المصرية أماني فوزي حبشي (دكتوراه في الأدب الإيطالي)، إيدّا زولّو غراندي (أستاذة اللغة والأدب العربي في إحدى جامعات البندقية)، عز الدين عناية (أستاذ جامعي تونسي ومترجم عن اللغة الإيطالية )، كاصد محمد (كاتب ومترجم عراقي، أستاذ اللغة والأدب العربي في جامعة بولونيا وجامعة ماﭼيراتا)، نجلاء والي( باحثة ومترجمة مصرية، حاصلة على دكتوراه الآداب في اللغة الإيطالية)، ماريّانا ماسّا (مترجمة إيطالية)، وائل فاروق (أكاديمي ومترجم مصري متخصّص بالإيطالية). هذه اللجنة المتعددة الأسماء والاختصاصات، ستعمل انطلاقاً من تصور مشترك حول تحديث النص وإعادة صياغته، استناداً إلى الدراسات الحديثة التي تناولت “الكوميديا الإلهية” في السنوات الأخيرة.
والسؤال الذي لا بد من طرحه هنا: ما دامت دار المتوسط شكّلت مثل هذه اللجنة الأكاديمية الرصينة لإعادة صياغة ترجمة حسن عثمان وتحديثها، فلماذا لم تعهد إليها مهمة ترجمة “الكوميديا” ترجمة جماعية جديدة مثلما فعل المجلس الأعلى للثقافة في مصر عندما أعاد ترجمة “الإلياذة” ملحمة الشاعر الإغريقي هوميروس ترجمة جماعية جديدة؟ وفي رأي الدار أن ترجمة حسن عثمان، المؤرخ وأستاذ التاريخ الإسلامي والأوروبي؛ هي الأكثر إغراءً والألمع بين الترجمات السابقة واللاحقة، لأسباب عدة. فحسن عثمان تفرغ لدراسة دانتي و”الكوميديا الإلهية” طوال 10 سنوات من 1941 وحتى 1951، واستغرقت الترجمة ثماني سنوات أخرى. وخلالها سافر على نفقته الخاصة وتارة بدعم من “اليونيسكو” إلى إيطاليا ليزور مصادر العلوم التي نهل منها دانتي، ويتتبع آثار الشاعر ورحلاته، ويشاهد الأماكن التي عاش فيها. وخاض عثمان في حقول الفن التشكيلي والموسيقى للاطّلاع على ذائقة دانتي الفنية والموسيقية. وإذا كان المتخصّصون قد اختلفوا على المدة التي استغرقها دانتي في كتابة “الكوميديا”، فمنهم من قال أربع عشرة سنة ومنهم من ذهب إلى اثنتين وعشرين سنة، فالدار تؤكد أن الترجمة استغرقت عثمان ثماني عشرة سنة، وهذا زمن لا يمكن وصفه إلا بالطويل. وجاء اختيارها تحديث ترجمة عثمان بمثابة تحية له على جهده الكبير والفريد.
باتت المكتبة العربية تضم أكثر من ترجمة لـ”كوميديا” دانتي، وهذه ظاهرة مهمة، فالترجمات العالمية للملحمة هذه لا تحصى، وحتى في اللغة الواحدة، كالفرنسية والإنجليزية… ولئن يمكن تخطي الترجمة الأولى الكاملة التي أنجزها اللبناني عبود أبي راشد بين 1930 و1933 وأضحت بحكم المجهولة، وكذلك ترجمة “الجحيم” التي قام بها الأردني أمين أبو شقرا عام 1938، فما يمكن الرجوع إليه من ترجمات “الكوميديا” هي ترجمة حسن عثمان التي شاخت في معنى ما وتحتاج فعلاً إلى تنقيح وإعادة صياغة، على الرغم من فرادتها وريادتها، وقوة سبكها وبلاغتها ومتانتها اللغوية، خصوصاً أن عثمان متخصّص في الدراسات التاريخية واللغوية. لكنّ هذه الخصال لا تعني أن الترجمة الأدبية، أي ترجمة، لا تصاب بملامح الشيخوخة، ويمكن تذكر قول الشاعر ت. إس . إليوت حول أن كل عمل أدبي مترجم تجب إعادة ترجمته كل عشر سنوات. ويمكن هنا استثناء بضع ترجمات بديعة عاشت مثل أصولها من شدة جماليتها وقوتها.
الترجمة الثانية التي يجب الوقوف عندها هي التي أنجزها الشاعر العراقي كاظم جهاد وصدرت العام 2002 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بدعم من منظمة اليونسكو. بذل جهاد الأكاديمي والشاعر والباحث، جهداً كبيراً بغية إخراج “الكوميديا” في صيغة إبداعية مزدوجة، أولاً على مستوى الترجمة والصياغة اللغوية الحديثة التي اتكأ فيها على مقدراته الشعرية ورهافته وحدسه وتأويله الشخصي بصفته شاعراً، وثانياً على المستوى النقدي الذي تجلى بدءاً في المقدمة الضافية والشاملة ذات الطابع الأكاديمي والتي تشكل كتاباً بذاتها، ثم الشروح المهمة والمرجعية التي رافقت المتن وبدت أنها ضرورية جداً ومن دونها لا يمكن استيعاب هذه الملحمة والتوقف عند محتواها الثقافي والتاريخي والديني واللاهوتي… ويمكن القول إن قراءة “الكوميديا” عربياً لا تستقيم إلا من خلال ترجمة كاظم جهاد والمقدمة والشروح. مع أن بعض النقاد والقراء أخذوا على جهاد أنه اعتمد أساساً على ترجمات فرنسية لـ”الكوميديا” وكان يعود إلى النص الأصلي حيناً تلو آخر، فهو لم يترجم فوراً من الإيطالية وحدها. وفي مقدمته يسجل جهاد ثلاثة “عيوب” على ترجمة عثمان: التفاصح حيث لزمت البساطة، السردية حيثما وجب اجتراح إيقاع شعري يلائم إيقاع الأصل، الإظهار بدل الإضمار.
توريط سامي الدروبي
الترجمة الثالثة لـ”الكوميديا” هي التي أنجزها الكاتب السوري حنا عبود وصدرت العام 2017 عن دار ورد في دمشق. هذه الترجمة تمت عن الإنجليزية، ولا خصائص مهمة تتسم بها، جمالياً ولا لغوياً ولا شرحاً ولا تقديماً. ومن يقارن بينها وبين ترجمة كاظم جهاد يأسف على الجهد الذي بذله عبود، فهي لا ترقى إلى مصاف الترجمة الإبداعية. وفي تقديمه ينتقد عبود ترجمة عثمان ويقول إنه وجد فيها “أخطاء فادحة وكثيرة جداً” ويذكر أرقام بضع صفحات من دون أن يورد الأخطاء. وهنا يقع في ادعاء مضلّل، ويقول إنه قارن بينها وبين الأصل الايطالي ليتأكد من فداحة الأخطاء. وما دام عبود يجيد الإيطالية فلماذا ترجم النص عن الإنجليزية؟ ترجمة عبود يمكن وصفها بالعادية جداً والرتيبة والخالية من البعد الأكاديمي.
المفاجئ في هذا القبيل أن ترجمة أخرى صدرت العام 2018 ولم تحظَ باهتمام ولا مراجعات ولم يدر الكلام حولها، وهي ترجمة صدرت عن دار مداد في الإمارات أنجزها عبدالله عبد العاطي وعصام السيد علي. وما تجب الإشارة إليه هو إقدام دار اسمها دار الألف على إيراد اسم المترجم السوري الكبير سامي الدروبي على ترجمة لـ”الكوميديا” أصدرتها وهو منها براء، ولعلها استخدمت اسمه من أجل ترويج الترجمة، فالقراء يعرفونه ويحبون ترجماته العديدة ومنها الأعمال الكاملة لدوستويفسكي.