تابع الآلاف من الفرنسيين تسجيلاً على الشبكة الإلكترونية للرئيس ماكرون وهو يعلن استقالته من منصبه. كانت ملامحه حزينة تنضح بالأسف وهو يقترح اسم أحد معارضيه خليفة له في «الإليزيه».
في اليوم التالي، أعاد تلفزيون الدولة عرض التسجيل ضمن تقرير عن الأخبار الكاذبة (فيك نيوز)، التي تجتاح الشاشات. والحقيقة أن للرئيس الفرنسي حصة كبيرة منها. تسجيلات مفبركة يبدو في أحدها مشرداً ينام على الرصيف، أو يشتبك مع المتظاهرين ضد قانون التقاعد، أو يواعد حبيبة سريّة في ريعان الصبا، ليس فيها شيء من ملامح زوجته.
خلال الأيام الماضية، شاهد الفسابكة واليوتيوبيون والواتسابيون سلسلة من هذه المنشورات الخادعة التي تسري كالبرق وتحط على شاشات ملايين الهواتف. منها فيلم عن المغنية الكندية سيلين ديون وهي تحضر عرس ابنها على كرسي متحرك. يرفع الابن والدته المريضة وكأنها خرقة هزيلة. يحتضنها في مشهد أبكى الملايين من محبيها. ثم اكتشف هؤلاء، بعد وهلة، أن المشهد كله مزيف وأن سيلين ديون قد تعافت وسجلت أسطوانة جديدة.
ومحيطنا العربي ليس بعيداً عن هذه الظاهرة. وقرأ المتابعون خبراً عن معركة بين نجم كرة القدم المغربي أشرف حكيمي وزوجته التي تطالب بنصف ثروته. كما رأوا مسجداً يُفترض أنه في السعودية تغزوه الصراصير. ووصلت إليهم رسالة مدسوسة بتوقيع الشاعرة الكويتية سعاد الصباح، وبيان مسيء للعقيدة بزعم أنه للرسامة العراقية عفيفة لعيبي. وكتبت الفنانة في موقعها كلمة غاضبة تتبرأ فيها من كل ما نُسب لها.
يقول تقرير التلفزيون الفرنسي إن التقنيات الحديثة تتيح تحريك صور الأشخاص بوضعيات ليست لهم، وإنطاقهم عبارات لم يتفوهوا بها. وإذا كان في مقدور الخبراء اليوم أن يكشفوا عن التزييف في الصوت، فإن الأمر سيصبح مستحيلاً في الغد. يتسابق أرباب التزوير في تطوير برامجهم الرقمية. يفوزون بملايين المتابعين المخدوعين ويجنون أموالاً.
معنى هذا أن كل فرد منا معرّض لأن يتعايش مع الخدعة في عقر مخدعه. سيلبسونك ثوباً ليس من أثوابك، وينطقونك بغير كلامك ومنطقك. يختطفون شخصيتك ويفسدون بينك وبين أصدقائك ولا تملك تكذيبهم. إن دوائرهم أوسع من دائرتك.
حضرت أم كلثوم، قبل أشهر، إلى باريس وغنّت في إحدى صالاتها. لم تغادر المطربة رقدتها الأبدية، لكن منظمي الحفل استحضروها على المسرح بتقنية «الهولوغرام». وهي صور افتراضية ثلاثية الأبعاد توهم المتفرج بأن الكائن حقيقي يقف أمامه. وقبل باريس ظهرت المغنية على مسارح في مدن عربية رغم أنها فارقت دنيانا قبل ما يقارب نصف قرن. إن من الجميل أن نسترجع، بقوة العلم، الفنانين الذين نحب. يدفع الحنين الفرنسيين إلى مسرح تغني فيه نجوم آفلة: داليدا وكلود فرانسوا وجاك بريل. يذهب الجمهور إلى حفلات الوهم ويطرب ويصفّق.
أرى بعين الخيال الأصوات والأجساد تعود إلى بيوتها وأحبابها بفضل العصا السحرية للتكنولوجيا. سيرى الأبناء أباهم المرحوم جالساً على كرسيه المفضل في الصالون يتفرج معهم على التلفزيون. وسيسمعون صوت والدتهم الراحلة واقفة في المطبخ تدندن بأغنية لسليمة باشا أو تشهق مع طشّة الملوخية.
يستحضر العلماء الأجساد بعد أن كان الحالمون يستحضرون الأرواح. اخترعوا القلب الصناعي والإنسان الآلي والطائرة المُسيّرة والصاروخ المسافر للقمر. كل ذلك والبشر يتقاتلون ولا يشبعون من التنازع على الأراضي وثروات الطبيعة. يسمو العقل وتنحدر الغريزة وتتواصل الحروب على الأرض وبين النجوم. لمَ لا يخترعون جندياً آلياً يحمل السلاح ويقاتل ويموت بدل حرقة قلوب الأمهات في كل عصر وأوان؟
تحضير أجساد – بقلم إنعام كجه جي
جريدة الشرق الأوسط