بعدما انفجر العنبر الرقم 12 في مرفأ بيروت وأحدث خراباً كارثياً هائلاً في المدينة وأوقع عدداً كبيراً من القتلى والجرحى، تذكرت القصة الطويلة “العنبر الرقم 6” التي كتبها الأديب الروسي الكبير أنطون تشيخوف في نهاية القرن التاسع عشر وعرفت رواجاً روسياً وعالمياً وترجمت إلى لغات شتى وتسابق المخرجون المسرحيون والسينمائيون، إلى تقديمها في عروض وأفلام لقيت نجاحاً شعبياً واسعاً. وإذا كان “عنبر” تشيخوف أشبه بقاعة تضم 25 مريضاً نفسياً أو “مجنوناً” كما يقال، داخل مستشفى كبير يشهد حالاً من الفوضى والقذارة والفساد، فـ”العنبر” اللبناني كان يحوي حجماً هائلاً من مادة نيترات الأمنيوم المتفجرة، بحسب ما أعلنت المراجع الأمنية، أو كمية كبيرة من الصورايخ والمتفجرات، بحسب رواية أخرى غير رسمية، أما المستشفى فيمكن تأويله رمزياً ليكون لبنان نفسه، البلد الغارق في الفساد والفلتان والفوضى والمهدد بالسقوط عن حافة الهاوية التي يقوم على شفيرها. ولعل تشيخوف قصد بالمستشفى في قصته البديعة بلاده روسيا التي كانت حينذاك في عهده، تعاني حالاً من الفوضى وسوء الحكم والسرقة وفيها ينعم “الأوغاد” بحياتهم الفاسدة بينما “الشرفاء” يُهمشون ويُسجنون ويُعذبون. في هذا المستشفى – الوطن (في صيغتيه الروسية واللبنانية) يسرق المسؤولون الأموال ويصادرون خبز المرضى وأدويتهم ويرمونهم في عنبر مهمل وقذر، يقوم على حراسته عسكري متقاعد يدعى “نيكيتا”، قاس وشرسٍ، لا يتوانى عن ضرب المرضى وتعذيبهم لا سيما عندما تنتابهم نوبات اضطراب أو حين يثورون ضد الظلم. كان تشيخوف حين كتابته هذه القصة يعيش في واقع نفسي مرير، خائباً ويائساً من تحقيق أحلامه الداعية إلى الإصلاح والتغيير، بعدما عمّ الفساد وشمل الدولة والحكام الجاهلين (يسميهم الطغمة الجاهلة) دافعاً البلاد إلى الانهيار.
العنبر الغامض
غير أن العنبر اللبناني الرقم 12 كان أشد عنفاً ورهبة وهولاً من عنبر تشيخوف. “عنبر” بيروت انفجر أو فُجّر ودمر ما دمر جاعلاً من بيروت أرض خراب. ولعل طابعه الغامض “الإشكالي” جعله عنبراً قدرياً وكأنه سقط من الفضاء مثل حمم سادوم وعامورة في التوراة، وغايته تدمير بيروت وقتل أهلها وتشريدهم. لا أحد يعلم كيف وصل عنبر الموت هذا إلى المرفأ، إلى مدخل بيروت أو بوابتها التاريخية. لا الدولة بأجهزتها الساهرة على أمن المواطنين تعلم، ولا المراجع الأمنية والإدارية في المرفأ، ولا الرؤساء الثلاثة بحسب الميثاق اللبناني (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي)، ولا رؤساء الأحزاب والكتل، ولا حتى حزب الله صاحب “الدويلة” الأقوى من الدولة… لا أحد منهم يعلم. كلهم أصبحوا براء من هذا الصندوق الفضائي .
كيف حطّ هذا العنبر الرقم 12 على أرض المرفأ؟ كيف مكث أكثر من ست سنوات هناك صامداً لا يتزحزح؟ كيف انفجر؟ هل فجرته المفرقعات التي تطلق في الأعياد والأعراس كما قال بيان رسمي “كاريكاتوري”؟ هل فجّره “اللحّام” عندما كان يقوم بـ”تلحيم” الحديد؟ هل أُطلق عليه صاروخ؟ هل فجّره العدو؟ هل لإسرائيل أو إيران دور في تفجيره؟ تُطرح الأسئلة ولا أجوبة لدى أحد. حتى الذين يفترض بهم أن يجيبوا لا يملكون نثرة جواب. لم يستقل رئيس ولا وزير ولا مدير عام ولا موظف كبيراً كان أم صغيراً ولا حتى حاجب أو بواب في الدولة. جميهم ينتظرون جلاء السر الكامن وراء العنبر وتفجيره. جميعهم ينتظرون الحقيقة التي لا بد أن تأتي بعد أن تتم “فبركتها” و”تلفيقها”.
إننا نعيش فعلاً في مستشفى يشبه مستشفى تشيخوف. لكنّ المرضى ليسوا في “عنبر” أو جناح، بل هم في كل مكان، يحتلّون المراتب والمراكز، يعتلون المنابر، يخطبون ويهدّدون ويوجهون التهم ويرفعون شارات النصر. يطلون علانية أو يقبعون في الكواليس، مصابين بـ”عقدة” العظمة وداء البارانويا والانفصام. في النهار يضعون أقنعة ليخلعوها في الليل ويضعوا سواها.
رمز المستشفى
إننا نعيش في وطن منهار ومفلس ومحطم، نخره الفساد وتآكّلته الطائفية بل المذهبية، عملاؤه يتبخترون في وضح النهار معلنين انتماءهم إلى دولة أخرى، شقيقة وعدوة في آن واحد. حزب يؤيد نظاماً “صديقاً” فتك بـ”وطنه” واغتال من اغتال من رجاله الكبار. لا حياء ولا خفر ولا وجدان. إننا نعيش في مستشفى كان ينقصها هذ العنبر الرقم 12 لتبلغ حالها أوج الجنون والهذيان والدم والخراب. خلال الحرب الأهلية أنجز زياد الرحباني مسرحية “فيلم أميركي طويل” وشاء المكان عبارة عن مستشفى للأمراض النفسية، وجعل المرضى يعانون معظم أمراض الشعب اللبناني لا سيما الطائفية والمذهبية والانتماءالمنفصم… كان مستشفى زياد حينذاك وقفاً على “مرضى” الحرب الأهلية، ولو كان له أن يعيدها اليوم لوسّع صالتها لتتسع للمرضى الجدد الذي ظهروا بعد اتفاق الطائف، ولأضاف ربما إلى العنوان “فيلم أميركي إيراني طويل”.
عندما زار الرئيس الفرنسي ماكرون بيروت معزياً الشعب اللبناني بمصيبته، أصرّ على النزول إلى ساحة الانفجار وإلى الأحياء المهدّمة ليلتقي الناس مباشرة. تحلّق اللبنانيون حوله وهتفوا له وكأنه رئيسهم، وتحدثوا عن قرب وقدموا له مطالبهم وشكوا له ظلم رؤسائهم وفسادهم وطلبوا منه أن لا تُرسل المساعدات إلى الدولة كي لا تسرقها على عادتها وتتوزّعها حصصاً بين رجالها. خلع ماكرون الكرافات والجاكيت وراح يضم المواطنين البائسين ويحنو عليهم. وطالبه بعضهم بعودة الانتداب من شدة تبرمهم بالدولة الظالمة. وبلهجة واثقة قال ماكرون: لا، لا للانتداب. أما رئيس الجمهورية اللبنانية فتفقد ساحة الكارثة، محاطاً بالحراس والعسكر منعاً لاقتراب الناس منه، ووقف، كما أظهرته الصور، يتفرج على الخراب واضعاً يديه في جيبَي البنطلون.
تذكّرت “عنبر” تشيخوف الرقم 6، عندما انفجر عنبر بيروت الرقم 12. بين هذين الرقمين 6 أرقام ضائعة، توازي أرقام ورقة اللوتو التي يقبل اللبنانيون على شرائها، عسى الحظ يبتسم لهم. وفعلاً ابتسم الحظ لهم وللدولة وللتاريخ.
كنا قبل أعوام وما زلنا، نتحدث عن”العنبر” اللبناني العظيم والعريق الذي يخرج من جذوع الشجر في غاباتنا وفي قلبه حشرات طالما استخدمها علماء لبنانيون وعالميون بغية دراسة الحشرات القديمة وتكوينها. الآن نسينا تماماً عنبر أشجارنا وبتنا نتحدث بحزن وأسى شديدين عن العنبر الرقم 12 الذي دمر بيروت ونشر السموم في هوائها.