حين تجالس المثقف من الزمن الجميل تراه كتلة من الثقافات المتعددة والقراءات، يستعرض تاريخها المنسي، وكأنه يرويها من جديد ويعلو بها، ها هو القادم من الأزمنة البعيدة تراه قليل الابتسامة، عالي المكانة، صافي الذهن، وإن بلغ من العمر ما بلغ، تراه في هالة من الثقافة تحيط به، تحرك شجونه نحو لوحة رسمها، أو فكرة ابتكرها، أو صوت مذهل اعترى مشاعره، في هذا الكيان الغريب يبقى القلب ينبض ثقافة، والعقل يعتنق وكره البعيد، يعيد رسالته الثقافية من جديد، يرفض التنازل عن مكونه الثقافي، وإن احتدم الزمن، وابتكر حوله هذه الطفرة الثقافية، والمؤسسات الثقافية، بهذا الكم من المنتديات، فالمثقف ذو القامة الثقافية وهو وحده من يلهم العالم من حوله، وحده من يشعل القمم ويشرق صورة أحادية محورية وجاذبة، لغة وثقافة ومكوناً، ولا يضاهيه أحد في ثقافته وفكره.
تتفكك الرؤى الثقافية، ويبقى المثقف يرسم ثقافته بعيدة عن ضوضاء تحفل بالاحتفاء، مبهرجة ريشته بالألوان، يرسم لوحة فنية ويرجي كتاباته، يشعر بهمومها الأخيرة.
وآخر يعتزل الصورة الجامحة، يغيبها من ذاكرته لعله يعود ليطمئن على المعنى الكبير للثقافة، وتجليها المنحوت في الذاكرة، وآخر يغادر تماماً مسرح الحياة الثقافية، يباغت الجمهور بقدر من الانتصار، يفد من بعيد يحمل بشارة متوجة بمهرجان الأفلام الوثائقية، لا عبث أمام الصورة الإبداعية، فقط يكتبها بقلم حريري أو يخرجها بطموح الفنون والفنان.
قد تغادر عتبة باب الأديب الكاتب الصديق وخلفك مكتبة مليئة بالكتب، والمخطوطات الروائية، لكل كتاب قصة ومرحلة من مراحل الحياة، تخفي أسرارها وشفرتها، لكن لا تخفى على المثقف نفسه، دائماً هو مهموم بهذا الإرث المكتبي واللوحات الفنية، كل عنوان يحبس الأنفاس.
قبل أيام مررت على بعض من الأصدقاء والأدباء والكتاب، زيارة خاطفة إلا أنها ذات معنى جميل مكتظ بالأفكار والرؤى بما لا يتسع لها الوقت، أن ترى وتجلس مع المثقف الحقيقي، أصبح هذا نادر الوجود، نادراً أن تقترب من مكانة وكيان أدبي وثقافي يجسد رؤى الحياة، أن تحفز الأفكار وتبحث عن الغائب منهم في الحياة، وقد باعدت السنوات بينكم وكأنها في عتمة وصمت ودهاء زمني يتحد مع الغربة الفكرية في طورها المعتاد.
استرسال جميل أن تضع الصداقة الثقافية في أبجديتها الشاملة، أن لا تضيعها من صورتها الجميلة، وإن انطفأ قليلاً سحرها، وإن رحل الأصدقاء الشعراء في قيثارة قصائدهم تظل صورهم في نبض المدن تحاور عالمهم، ولِمَ لا والشعر وحده له المقدرة على الخطاب بعيد المدى.
جريدة الاتحاد
المثقف الحاضر الغائب